محمد السمّاك
في 13 ابريل 1975 انطلقت شرارة الحرب الأهلية في لبنان سبق ذلك سلسلة أحداث أمنية كان أخطرها الاشتباكات المسلحة بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية في عام 1973 والتي توّجها قصف المخيمات في بيروت. استمرت الحرب الأهلية لمدة سنتين ثم توقفت. أو هكذا اعتقد اللبنانيون. ولذلك أطلقوا عليها اسم quot;حرب السنتينquot;. وكان اعتقادهم خاطئاً. إذ سرعان ما استؤنف التقاتل من جديد لتستمر الحرب حتى عام 1989، حيث عقد في مدينة الطائف مؤتمر للبرلمانيين اللبنانيين أسفر عن وضع ميثاق وطني جديد. وفي العام التالي أقرّ مجلس النواب تعديلات على الدستور على قاعدة ما تضمّنه هذا الميثاق، ليبدأ لبنان مرحلة جديدة من تاريخه الحديث.
من هنا السؤال: لماذا انتظر اللبنانيون كل هذه السنوات حتى يتوصلوا الى اتفاق يضع حداً للحرب؟.
للإجابة على هذا السؤال لا بد من ملاحظة الأمر التالي، وهو أن عام 1989 كان عام سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي والغربي بزعامة الولايات المتحدة. وكانت دول الشرق الأوسط خلال هذه الحرب الباردة منقسمة بين المعسكرين. وكان لبنان مسرحاً ساخناً لصراع المنقسمين، حتى أن وحدات من الأسطول الأميركي السادس انتشرت في مياه لبنان الاقليمية، واشتركت احدى القطع الحربية في العمليات القتالية. كما أن الطيران الحربي السوفياتي أقام مظلة حماية في الأجواء السورية، في الوقت الذي كان الطيران الحربي الأميركي يعرض عضلاته في سماء لبنان.
ولكن عندما سقط الاتحاد السوفياتي وتبعثر معسكره، انتهت الحرب الباردة، ولم يعد هناك مبرر لاستمرار الصراع. وبالتالي لم تعد هناك حاجة لمسرح لهذا الصراع، مما سمح بولادة اتفاق الطائف.
خلال الحرب الأهلية الدامية تمكنت القيادات السياسية اللبنانية أكثر من مرة من التوصل الى صيغ للوفاق الوطني، إلا أن تلك المحاولات كانت تصطدم بواقع الحاجة الى ضوء أخضر يسمح بإعلان الاتفاق.
ففي الواحد والعشرين من سبتمبر 1983 عُقد مؤتمر اسلامي في دار الفتوى ضم القادة الروحيين والسياسيين من المذاهب الاسلامية كافة، السنّة والشيعة والدروز. اتخذ هذا المؤتمر قرارات عدة أُطلق عليها اسم الثوابت الاسلامية. ينص الثابت الأول على ما يأتي:
quot;لبنان وطن نهائي بحدوده الحاضرة المعترف بها دولياً، سيداً حراً مستقلاً، عربياً في انتمائه وواقعه، منفتحاً على العالم، وهو لجميع أبنائه، له عليهم واجب الولاء الكامل ولهم عليه حق الرعاية الكاملة والمساواةquot;.
في الحيثيات التي تشكل الأسباب الموجبة لاتخاذ هذا الموقف وردَ ما يلي:
quot;في الوقت الذي بات الواقع المتردي فيه يهدد وجود المسلمين اللبنانيين في معناه ومظاهره، وهو ما يرفضه المسلمون، ليس على أساس انهم يريدون تحقيق الذاتية الاسلامية على حساب الذاتية الوطنية اللبنانية وإنما على أساس ان المسلمين اللبنانيين يريدون من موقفهم هذا تصحيح الوضع اللبناني في مساره التاريخي لأجل تحقيق الذاتية الوطنية الصادقة وتعزيزها وتحقق من خلالها ذاتية كل فئة لبنانية بما تقتضيه مبادئ العدالة والمساواة، فلا تذوب ذاتية فريق ولا تشوَّه على حساب عملقة مصطنعة لذاتية أخرىquot;.
بعد ست سنوات، بتاريخ الثاني والعشرين من اكتوبر 1989، صدر ميثاق الطائف. وفي هذا الميثاق تنصّ الفقرة quot;أquot; من المادة الأولى منه على ما يلي:
quot; لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات، في حدوده المنصوص عنها في الدستور اللبناني والمعترف به دولياًquot;.
وقبل أشهر عديدة من انعقاد مؤتمر الطائف، عقدت قمة روحية اسلامية مسيحية في الكويت لمناسبة اجتماع الرؤساء الروحيين الى اعضاء اللجنة العربية السداسية المكلفة بمعالجة الأزمة اللبنانية وأكدت تلك القمة على أمرين أساسيين:
الأمر الأول هو رفض الحرب والاحتكام الى السلاح، والدعوة الى السلم الأهلي والوفاق الوطني.
أما الأمر الثاني فهو رفض منح أي غطاء ديني لأي تنظيم مسلّح، ورفض أي ادعاء بأن القتال هو لمصلحة هذه الطائفة أو تلك.
وأُعلن الأمران في الوقت الذي كان يسود الاعتقاد بأن الحرب الأهلية هي حرب طائفية يتصارع فيها المسلمون والمسيحيون، مع ان كليهما كانا ضحية تلك الحرب. وهو ما بدا جلياً من خلال اتفاق الطائف الذي صدر بعد ذلك.
ما كان لبنان بحاجة الى انتظار كل هذه السنوات من التقاتل المرير حتى يقرّ الأسس الدستورية التي تعكس هذا الوفاق، ولكنه كان بحاجة الى الضوء الأخضر الدولي والاقليمي. وما كان لهذا الضوء أن يصدر، لو لم تنته الحرب الباردة !.
وتكريساً لذلك تبنّت كل من جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة، وكذلك الولايات المتحدة وأوروبا الصيغة التي أعلنها اللبنانيون أو سُمح لهم بإعلانها من الطائف.
وبعد ست سنوات على صدور وثيقة الطائف، عُقد في الفاتيكان بدعوة من البابا الراحل يوحنا بولس الثاني وبرئاسته المؤتمر الراعوي (السينودس) رجاء لبنان من أجل لبنان. تناول المؤتمر موضوع تعدد الطوائف ووحدة الوطن في أكثر من مادة. لعل أبرزها ما ورد في المادتين 21 و22 من ان quot;الانتقال من الولاء الطائفي الى الولاء الوطني يقتضي له نظام سياسي وطيد يُشرك كلاً من الطوائف باتخاذ القرارات الوطنية بحيث لا تفرض اي طائفة على الأمة ما لا يناسبها، ولا يتلاءم وتقاليد الطوائف الأخرى. وهذا النظام يقوم على الديموقراطية التوافقية، ولا يمكنه أن يكون تحت رحمة إيديولوجية الأكثريةquot;.
ولعل هذه الاشارة المبكرة الى التوافقية التي تحكم اليوم الحياة السياسية في الحكومة وفي البرلمان معاً كانت من العوامل الاساسية التي دفعت لبنان في هذا الاتجاه. فهل أدى ذلك كله الى الإيمان بأن الحرب قد انتهت فعلاً الى غير رجعة؟ لا يبدو أن الجواب هو ملك اللبنانيين وحدهم رغم مباراة كرم القدم التي جرت في ذكرى بداية الحرب بين أقطاب السياسة اللبنانية الحاليين والمخضرمين. ذلك أن الجواب يتوقف الى حدّ بعيد على تطورات الصراعات الاقليمية والدولية.. وقبل هذه وتلك، على ثقافة الاستقواء بالخارج التي لا تزال متجذرة في الحياة السياسية اللبنانية.
التعليقات