خليل العناني


من جديد تُثار قضية النقاب في أوروبا، ولكن هذه المرة في بلجيكا، فقد صوّت البرلمان البلجيكي قبل يومين على قانون يمنع ارتداء النقاب في الأماكن العامة، وقد جاءت الموافقة عليه بالإجماع وامتناع نائبين فقط، وإذا ما صدر هذا القانون فعلياً فسيكون الأول من نوعه في أية دولة أوروبية، ومن المتوقع أن يُصدر البرلمان الفرنسي قانوناً مشابهاً خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وهو ما سوف يثير كثيرا من الجدل حول مسألة الحريات وجدل العلاقة بين الخاص والعام في الفضاء الأوروبي.
وتظل قضية النقاب في أوروبا امتداداً لغيرها من القضايا الشائكة التي تواجه الأقليات المسلمة في أوروبا، كالحجاب وبناء المساجد والمآذن وغيرها، وهي قضايا لن تتوقف عن الظهور ما لم يحدث تحوّل حقيقي في فهم المسلمين لطبيعة وثقافة المجتمعات الغربية، وما لم تتحرر أوروبا من مرض quot;الإسلاموفوبياquot; الذي بات يهيمن عليها ويكاد يقضي على تاريخها الطويل من التسامح والتعايش.
ودون الخوض في الإشكالات السياسية والدينية التي تثيرها مثل هذه القضايا، يمكن القول بأن ثمة مفاهيم خطأ يجرى ترويجها بين الأقليات المسلمة في أوروبا، مما يساعد على صعوبة اندماجها في مجتمعاتها الجديدة، وقد قابلت مسلمين كُثرا في بريطانيا وفرنسا لديهم أفكار مشوّهة ومغلوطة حول كيفية التوفيق بين تعاليم الإسلام والاندماج مع غير المسلمين، وقبل أيام استوقفني موقف غريب، حين سمعت أن بعض الشباب المسلم في لندن يحرّم المشاركة في الانتخابات البريطانية العامة التي سوف تجرى بعد أيام قليلة، وكان أعجب ما سمعت هو النهي عن التصويت في الانتخابات باعتبارها معصية وتتناقض مع مبادئ الإسلام، والمدهش أن مثل هذا الكلام قد جاء على لسان بعض البريطانيين الذين اعتنقوا الإسلام مؤخراً، ما يعنى أنهم انتقلوا من النقيض إلى النقيض، وهنا بيت القصيد، ذلك أن ثمة أسطورة سائدة لدى كثير من quot;المتحوِّلين الجددquot; للإسلام بأن الرؤية السلفية للإسلام هي الأمثل والأنقى والأجدر بالاتباع، ما يعنى الانصراف عن اعتناق أية رؤية تقدمية يمكنها الموازنة بين المصالح والضرورات.
وتقوم هذه الرؤية المغلقة للإسلام على ثلاثة أسس: أولها الالتزام الصارم بما يُفترض أنه الإسلام quot;الأصليquot; خاصة في قضايا شكلية مثل الرداء أو ما قد يُقال عنه إنه زيّ إسلامي، وشخصياً، لا أعرف ما إذا كان هناك زي محدد قد فرضه الإسلام وآخر نهى عنه، وثانيها الالتزام الحرفي بتفسير النصّ الديني دون الأخذ في الاعتبار أية اختلافات زمنية أم موضوعية، وثالثها أنها تخلط بين مفهومي حرية العبادة واحترام الفضاء العام (Public Sphere).
وهنا تبدو المسألة أكثر تعقيداً، فبعض الأقليات المسلمة في الغرب يخلط بين حرية ممارسة الشعائر الدينية، ومسألة احترام الخصوصية الثقافية والحضارية للبلدان الأوروبية. صحيح أن كثيراً من الدول الغربية تكفل وتتيح ممارسة الحريات الدينية دون أي تدخل، ولكنها أيضا تظل موالية لتراثها وإرثها الثقافي الذي تحاول حمايته من أي اختراق أو تبديل قد يؤدي إلى توترات دينية أو اجتماعية، خاصة إذا ارتبط الأمر بقضايا مثل مسألة النقاب التي هي محل خلاف داخل البلدان الإسلامية ذاتها وليس الدول الأوروبية فحسب.
وإذا كانت هذه الرؤية السلفية هي الأقل تأثيراً بين الأقليات والتجمعات الإسلامية في الغرب، إلا أنها الأكثر حضوراً في الفضاء العام الأوروبي، وهي التي تخلق ذلك الحاجز quot;الإسمنتيquot; لدى المواطن الغربي تجاه الإسلام والمسلمين، وتجعله يصوّت لمثل هذه القوانين العنصرية، وهو ما يعطى لليمين الأوروبي فرصة لبثِّ الذعر والرعب لدى الأوروبيين فيما يخص أسلمة مجتمعاتهم وغزوها دينياً وثقافياً، كما أنها أبعد ما تكون عن فقه الأقليات وما يقدمه من اجتهادات كفيلة بفضّ الاشتباك حول هذه القضايا الإشكالية.
إن أفضل خدمة قد تقدّمها الأقليات المسلمة لديننا الحنيف هو الاندماج والتعايش مع مجتمعاتها واحترام ثقافتها وقيمها، وليس من خلال التمسك بالإسلام الشكلي والطقوسي الذي يضرّ أكثر مما ينفع.
bull; أكاديمي مصري، جامعة quot;دورهامquot;، بريطانيا.