تركي الدخيل

أسئلة كثيرة تدور حول أسباب هذا الانهيار في‮ ‬مستوى الوعي‮ ‬الديني،‮ ‬نلاحظ نقص مستوى الوعي‮ ‬الديني‮ ‬في‮ ‬تمدد الشكليات والحركات والأزياء على حساب المعنى الروحي‮ ‬والوجداني‮ ‬للدين،‮ ‬تمت شكلنة الدين بشكل واضح،‮ ‬في‮ ‬النصف الأخير من الثمانينات الميلادية والنصف الأول من عقد التسعينيات تم ضخّ‮ ‬خطاب متشدد شكلاني‮ ‬يركّز على تقريع الناس من ممارسة الأشياء العادية الحياتية اليومية،‮ ‬تم تحريم الألعاب وألوان الرياضة والفنون،‮ ‬تمّ‮ ‬التركيز على محاربة الصورة وربطها بالعقيدة،‮ ‬ذلك الخطاب المتشدد كان بذرةً‮ ‬أساسية لتنفير الناس من جماليات الحياة،‮ ‬أصبح الدين شكلاً،‮ ‬بات من‮ ‬يلتزم بشروط شكلية في‮ ‬لبسه‮ ‬يعتبر‮ ''‬ملتزماً‮''‬،‮ ‬حتى وإن سرق أو اغتصب مال‮ ‬يتيم‮. ‬ تزامن ذلك الضخ المتشدد مع إنتاج‮ ‬غزير للكاسيتات،‮ ‬نسخت ملايين الكاسيتات،‮ ‬أصبحت تلك المرحلة‮ ''‬زمن الكاسيتات‮''‬،‮ ‬ولا‮ ‬غرابة أن‮ ‬يشترك الإسلاميون السنة والشيعة معاً‮ ‬لاستخدام الكاسيت كوسيلة لنشر الأفكار،‮ ‬ابتداءً‮ ‬من استخدام الخميني،‮ ‬وانتهاءً‮ ‬باستخدام رموز الصحوة الإسلامية لتلك التقنية الحديثة،‮ ‬من أجل تمزيق فقه الحياة الذي‮ ‬ترسّخ بفعل براءة اجتماعية أصلية،‮ ‬نامت العيون على أصوات التقريع،‮ ‬أسواط من الصهيل والتصويت ضد الحياة بكل معانيها وأشكالها،‮ ‬تسبّبت في‮ ‬إغراق العقول بأصناف من الوسوسة الدينية،‮ ‬والتعلق بشكليات عادية،‮ ‬تم التركيز على تحريم الإسبال وحلق اللحية والغناء والتصوير‮. ‬ اطلعتُ‮ ‬قبل أيام على كتاب من تأليف‮: ‬ثريا جعيبس،‮ ‬بعنوان‮: ‬التلفزيونات الفضائية العربية،‮ ‬وهو كتاب حديث طبع سنة‮ ‬‭,‬2009‮ ‬تطرّقت فيه إلى‮ ''‬حمّى الكاسيتات الأيديولوجية‮''‬؛ وتتحدث عن اشتراك الإسلاميين والماركسيين وأعضاء حزب الله وصدام حسين في‮ ‬توظيف الكاسيت لنشر الأفكار التي‮ ‬يريدونها؛ تقول‮: ''‬يقال إن العالم العربي‮ ‬هو في‮ ‬حال استنفار دائم،‮ ‬وإن السكان مجبرون على كمّ‮ ‬الأفواه بشكل فاضح،‮ ‬مسيّسون إلى أبعد حد،‮ ‬وبأن الآلاف من المثقفين المضطربين والمهتاجين،‮ ‬لم‮ ‬يجدوا منفذاً‮ ‬سوى هذه الوسيلة الوحيدة للحصول على معلومات جديرة بالتصديق،‮ ‬أو عند الجهة المعاكسة،‮ ‬تصبح الدعاية على الكاسيت المخدّر اليومي،‮ ‬لا‮ ‬غنى عنه بالنسبة للجماهير‮''. ‬ تمكّن الخطاب الإسلامي‮ ‬الفئوي‮ ‬الضيق من حصار المجتمع،‮ ‬أغلقت الكثير من مدن الألعاب،‮ ‬وضيّق على الرياضيين،‮ ‬حتى أننا قرأنا في‮ ‬سلسلة‮ ''‬العائدون إلى الله‮'' ‬قصصاً‮ ‬عجيبة عن‮ ''‬التوبة‮''‬،‮ ‬بعضهم تاب من وظيفة‮ ''‬حكَم‮''‬،‮ ‬وآخر تاب من وظيفة‮ ''‬حارس مرمى‮''‬،‮ ‬وآخر تاب من لعب كرة القدم عامةً‮ ‬سواءٌ‮ ‬كان هجوماً‮ ‬أو دفاعاً،‮ ‬وزّعت الكاسيتات المليئة ببكاء أولئك التائبين،‮ ‬صياح وصراخ واحتفال بأن الله منّ‮ ‬على هؤلاء بالتوبة من تلك الألعاب البريئة،‮ ‬صارت التوبة وسيلة للمزايدة على الشكليات في‮ ‬الإسلام،‮ ‬حتى إن حارساً‮ ‬من حرّاس أشهر فرق السعودية كان‮ ‬يشوص فاه بالسواك أثناء حراسته لمرمى فريقه‮!. ‬ تلك الحمّى التي‮ ‬تمكّنت من المجتمع بدأت تنقشع قليلاً،‮ ‬لكن بعد فوات الأوان،‮ ‬تمّ‮ ‬تسميم الملايين بفيروسات كراهية الحياة،‮ ‬حتى كادت أن تصحّ‮ ‬فينا مقولة ابن خلدون وهو‮ ‬ينعى أمةً‮ ‬تهاوت فرقاً‮ ‬باهتة‮: ''‬كأنما نادى لسان الكون في‮ ‬العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة‮''‬،‮ ‬وأظنّ‮ ‬أننا بحاجة إلى جهد مضاعف،‮ ‬وعلى مدى عقود لإزالة آثار جهود رموز الكاسيتات الأيديولوجية التي‮ ‬علّبت الإسلامي‮ ‬وشكلنته،‮ ‬وفرغته من مضمونه الروحي‮ ‬العميق‮... ‬وإلى أن‮ ‬يأتي‮ ‬ذلك اليوم ستموت أجيال من الناس لم‮ ‬يعرفوا طعم الحياة،‮ ‬يموتون وهم تحت تأثير سياط التهويل والتقريع الذي‮ ‬نزع براءة أمم من الناس،‮ ‬وحوّلتهم إلى كيانات خائفة مرتعدة مرتعشة،‮ ‬تخاف من كل نسمة فرح،‮ ‬وتفرّ‮ ‬من كل بصيص نور‮.