سيد أحمد الخضر

يبدو أن أوروبا مصممة على صون منجزاتها الحضارية وضرب المثل الأعلى في التكتل والتضامن، فكلما واجهت وحدتها اختبارا صعبا تجاوزته بنجاح كبير وأعطت العالم درسا عميقا في مواجهة التحديات والتعاطي مع القضايا المصيرية.
في محاضراته حول النظم الدبلوماسية والقنصلية كان الدكتور لؤي يونس بحري، الذي عمّر ثمانين حولاً قضى معظمها بين الجامعات العراقية والأميركية، منبهرا بتعاون الاتحاد الأوروبي ويخصص معظم الدرس للحديث عن رقيّ الدول الأوروبية ونجاحها في فتح الحدود وتوحيد القوانين وإصدار تأشيرة quot;شينغنquot; الموحدة.. ذات مرة خاطبنا الدكتور: quot;قد لا أعايش مسيرة الاتحاد الأوروبي لكن أوروبا ستبلغ مستوىً من التعاون الاقتصادي والتطور السياسي يفوق تصور البشر العاديين. من كُتب له منكم أن يعيش بضع سنوات سيدرك حقيقة ما أقولquot;.
لقد قال كثير من المحللين إن وحدة القارة على المحك لأن الاقتصاد يحد من طموح السياسة، فقطار الوحدة كان يسير بسرعة فائقة لأن اقتصادات دول القارة كانت بخير كلها لكن أزمة اليونان ستعصف بالمسيرة المشتركة وقد ترجع القارة وراءً لتعيد ملف الاتحاد لمزيد من التنقيح.. لم يكن لتحليلاتهم قسط من المصداقية لسبب بسيط هو أن تصوراتهم وتخميناتهم لا يمكن أن تحلق بعيداً عن الواقع الذي يعيشونه. من كان على حق هو الدكتور لؤي بحري فهاهي أوروبا تسدد ديون اليونان التي تجاوزت مئات المليارات من اليورو. لقد خاطبت أنجيلا ميركل البرلمان الألماني قائلة: قررتُ صرف 22 مليار يورو لمساعدة اليونان على النهوض لأن اليونان دولة أوروبية وما يهددها يهدد جميع دول القارة لا أقل ولا أكثر. وفي هذه اللحظة تحلت المعارضة الألمانية بقدر كبير من المسؤولية فساندت القرار، خلافا لما يحصل عندنا فعندما تختار الحكومة صف الملائكة تقول المعارضة إن البَرَكة في الشياطين، والشيء ذاته حصل في فرنسا وإيطاليا إلى آخر قائمة الاتحاد. لقد بدت دول الاتحاد الأوروبي كلها تحمل همّ اليونان حتى يخيل للمتابع أن زعماء القارة كلهم يديرون غرفة عمليات مشتركة نظراً لتصريحاتهم الكثيرة حول موضوع اليونان وتحذيرهم من تداعياته.
إن أميركا التي تضرب لها أكباد السفن والطائرات في الوحدة السياسية والتكامل الاقتصادي والقانوني لم تبلغ معشار ما وصل إليه الاتحاد الأوروبي من تكتل واندماج فكثيراً ما تواجه إحدى الولايات الأميركية أعباء اقتصادية بمفردها حيث تتحمل كل ولاية ميزانيتها المحلية ولا يصلها من واشنطن إلا النزر من المال مصحوباً بالمنّ والأذى.
وفي آسيا نتذكر أن قادة باكستان قبل فترة وجيزة كانوا يجوبون القارة بحثاً عن قرض يسير يجنب البلاد كارثة معيشية لكن أحداً لم يمدّهم حتى بروبية واحدة وبقي الحل الوحيد هو رهن سياستهم وسيادتهم للبنك الدولي والولايات المتحدة مقابل ملايين معدودة!
وأعتقد أن العرب حتى وإن كانوا أمة واحدة ذات رسالة خالدة ومصير مشترك لا محل لهم هنا من الإعراب، ولا من البناء أيضاً، ويكفي التعريج على حجم المساعدات التي تقرر في ختام أي قمة عربية لتكتشف أن التعاون القائم بين هذه الدول لا يستند حتى لمبادئ حسن الجوار ناهيك عن ترجمة الشعارات الكبيرة.
إن عضوية الاتحاد الأوروبي ليست فقط عنواناً للسير في ركب الحضارة العالمي إنما تمثل أيضا تأميناً على المستقبل، ولعل هذا ما يفسر حرص تركيا على أن تكون أوروبية. الأتراك محقون في تلك المساعي التي تنم عن علوّ همة وتطلّع إلى حجز مكانة لأمتهم على مساحة الحرية والرفاه والأمن، وأتصور أن قادة تركيا أوتوا نصيباً من الحكمة يجعلهم قادرين على متابعة هذه الجهود والإعراض عن سفاهة الذين يقولون إن على تركيا العودة إلى عمقها quot;الاستراتيجيquot; بدل الإصرار على اللحاق بالاتحاد الأوروبي.
إن المناخ الذي يريدون تركيا أن تكون جزءاً منه لا يلبي يسيراً من طموحات الأتراك المشروعة فما ظنكم بدول لا يرحم الكبير منها الصغير ولا يوقر صغيرها الكبير.. وإذا عثر منها الضعيف أجهزوا عليه حتى لا يقوى على النهوض مستقبلا.