مصطفى الفقي

ثارت من جديد في الآونة الأخيرة أفكار وأحاديث حول دول الجوار العربي، ولقد كانت كلمة الأمين العام لجامعة الدول العربية أمام قمة ldquo;سرتrdquo; بمثابة تجديد لخطاب سياسي عربي يعيد النظر في العلاقات مع دول الجوار خصوصاً إيران وتركيا، وما أكثر ما تطرقت شخصياً إلى هذا الموضوع في كتابات وحوارات خلال السنوات الأخيرة، ذلك أنني أشعر بأن إيران وتركيا الدولتين المسلمتين الجارتين للعالم العربي كما يلحق بهما دول شرق إفريقيا خصوصاً إثيوبيا لأن قضية التخوم العربية تبدو بالغة الأهمية في ظل التطورات الإقليمية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، ورغم الاختلاف الواضح بين السياستين الإيرانية والتركية تجاه الغرب عموماً والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً وموقف كل منهما من الصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo; وقضية الشرق الأوسط، إلا أن الأمر يستلزم معالجة شاملة ترى المنطقة كوحدة جغرافية وسياسية متكاملة برغم اعترافنا بالخلافات القائمة بل والنزاعات المكتومة أيضاً، وهذا يقودنا إلى عدد من الملاحظات نطرحها في النقاط التالية:

* أولاً: إن التراث الثقافي المشترك الذي أفرزه التاريخ الإسلامي قد صنع أرضية ثقافية متقاربة، خصوصاً وأن الإسلام دين ودنيا وتدخّله في حياة البشر اليومية مشهود ومعروف، لذلك كان التقارب بين هاتين الدولتين الجارتين والدول العربية أمراً يمكن إدراكه بسهولة وملاحظته في يسر، فورثة الدولة (الصفوية) الشيعية في إيران والإمبراطورية (العثمانية) السنية في تركيا برغم ما بينهما من اختلافات - إلا أنهما يجسدان دعامتين تقتربان حضارياً، وإن اختلفتا سياسياً، وهذا أمر من شأنه أن يجعل علاقتهما بالعرب وأغلبهم مسلمون متميزة بقدر من التجانس القائم على التداخل بين الأبعاد المتعددة للحضارة العربية الإسلامية .

* ثانياً: لكل من إيران وتركيا أجندة خاصة تحكم علاقتهما بدول الشرق الأوسط بل وتحدد المسار الدولي لكل من طهران وأنقرة فإيران تسعى لقيادة العالم الإسلامي والكل يتذكر مقولة الإمام الخميني غداة وصوله إلى طهران في فبراير/شباط 1979 حيث أعلن أنه قد آن الأوان لأن يقود الفرس الأمة الإسلامية بعد أن قادها العرب والأكراد والترك لعدة قرون، لذلك لا يخالجني شك في أن إيران تسعى لامتداد الهيمنة الفارسية وقد تكون نيتها في ذلك طيبة، ولكن أهدافها في النهاية لا تقف عند حد .

* ثالثاً: إن تركيا على الجانب الآخر تبحث عن دور فاعل في مشكلة الشرق الأوسط وفي تسوية الصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo; حتى يكون بمثابة أوراق اعتماد تتقدم به وهي دولة عضو في حلف الأطلسي- إلى الاتحاد الأوروبي لتحظى بعضويته التي تبدو أملاً بعيداً يحرص الأتراك على تحقيقه ولو بعد حين، ولاشك أن دور أنقرة في السنوات الأخيرة قد ميّز السياسية الخارجية التركية على المستويين الإقليمي والدولي بقدر كبير من المرونة والقدرة الواسعة على الحركة، كما أن وزير خارجيتهم أحمد داود أوغلو يملك رؤية خاصة لدور تركيا الإسلامي والعربي والشرق أوسطي عموماً، ويدرك تأثير ذلك على مستقبل الدولة التي كانت ذات يوم تحكم الشرق الأوسط والبلقان وتدق بجيوشها العثمانية أبواب العواصم الأوروبية .

* رابعاً: إن العلاقات التركية - ldquo;الإسرائيليةrdquo; التي كانت ذات يوم نموذجاً للتنسيق الاستراتيجي والتعاون العسكري، تأخذ الآن شكلاً جديداً، ولقد فكرت أثناء حضوري قمة ldquo;سرتrdquo; العربية واستماعي إلى عبارات رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان كيف جرى هذا التحول الكبير فلقد تحدث رئيس الوزراء التركي عن القضية الفلسطينية ومحاولات المساس بهوية القدس ودور ldquo;إسرائيلrdquo; في المنطقة بأسلوب أظن أن معظم القادة العرب في ذلك المؤتمر لم يكونوا قادرين على القول بمثله أو استخدام مفرداته القوية، وذلك يأتي في وقت تسعى فيه تركيا لكي تكون لاعباً رئيسياً لا في الصراع العربي ldquo;الإسرائيليrdquo; وحده، ولكن أيضاً في الأجندة الفلسطينية الداخلية ورأب الصدع بين طرفي النزاع (فتح وحماس) كما أن العلاقات المتنامية بين أنقرة ودمشق تضيف هي الأخرى بعداً جديداً يعود الفضل فيه بداية إلى مصر التي سافر رئيسها في يوم احتفاله بعيد النصر في 6 أكتوبر 1998 لمقابلة الرئيس التركي السابق سليمان ديمريل وانتزاع فتيل الأزمة المحتدمة بين تركيا وسوريا بسبب ممارسات حزب العمال الكردستاني في وقت كانت فيه نذر الحرب بين الدولتين توحي بهجوم تركي وشيك على الحدود الشمالية للدولة السورية .

* خامساً: إننا إذا كنا نرى أن الدورين الإيراني والتركي يحيطان بالمشرق العربي ويتدخلان في الشأن القومي كل بطريقته ووفقاً لأجندته، إلا أن على العرب أن يكونوا أصحاب دور فاعل وأن يملكوا أجندتهم الذاتية، وأنا أتذكر هنا ما قاله الرئيس مبارك منذ عدة سنوات يوم أن زار أولمرت رئيس وزراء ldquo;إسرائيلrdquo; حينذاك القاهرة فأعلن الرئيس المصري في المؤتمر الصحافي المشترك أنه إذا كان ldquo;لإسرائيلrdquo; ترسانتها النووية التي لا تفصح عنها بينما نعلمها جميعاً، وإذا كانت إيران تسعى هي الأخرى إلى حيازة برنامج نووي كبير، فإن على العرب ألا يظلوا متفرجين مكتوفي الأيدي وهذه رؤية محورية لدور عربي أكثر فاعلية وأشد قدرة على المواجهة الدولية من خلال دور إقليمي فاعل إذ لا يجب أن يقتصر الحديث باسم الشرق الأوسط والحوار مع الغرب خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية على دولتين فقط فيه هما إيران وتركيا فأنا أظن أنه لا يكون مقبولاً ولا معقولاً أن تكون طهران وأنقرة رغم الاختلاف الكبير بين سياستيهما الخارجية هما اللاعبان الرئيسان وحدهما باسم الشرق الأوسط .

* سادساً: إن الدور المصري يبقى في النهاية هو الرقم الصعب في المعادلة الإقليمية، فهناك من يتحدث عن تراجعه تاركاً مساحة يعبث فيها الإيرانيون ويلعب عليها الأتراك، وذلك قول لا يؤخذ على إطلاقه، إذ إن الدور المصري يبقى في كثير من المواقع بلا بديل، خصوصاً في مسألة العلاقات الفلسطينية - الفلسطينية والمواجهة مع ldquo;إسرائيلrdquo; في الأرض المحتلة، كما أن قضية غزة في النهاية تكاد تكون قضية مصرية تمثل هماً على القاهرة وتشكل عبئاً دائماً على سياستها العربية والدولية، وهنا ألفت النظر إلى أن الدور المصري محكوم بقرار ذاتي إرادي لا بد أن يستند إلى رؤية شاملة للأوضاع الراهنة وأن يعتمد على إرادة وطنية ذات بعد قومي في نظرتها للأحداث الجارية في ذات الوقت أيضاً .

* سابعاً: إن إيران النووية أو تركيا الأطلسية تحملان إرثاً إسلامياً نعتز به ولا ننكره ولكننا نظن من منطق استقراء التاريخ أن الأمة العربية هي قلب الشرق الأوسط وجوهر شخصيته الإقليمية، ولا يمكن تغييب ذلك الوزن القومي لأمة تشابكت مصالحها وتعقدت علاقاتها مع الأطراف الأخرى في المنطقة عبر تاريخها الطويل ولكن تبقى ldquo;إسرائيلrdquo; دائماً هي علامة الاستفهام الكبرى لدولة عنصرية بلا حدود واضحة أو مستقبل محدد فاعتمادها فقط يقوم على سياستها التوسعية الاستيطانية والعدوانية الشرسة، وما زالت ذاكرة العرب تحتفظ في أعماقها بأصداء العلاقات الطويلة مع السلطنة العثمانية والدولة الصفوية، كما أن تلك الذاكرة لا تنسى جرائم ldquo;إسرائيلrdquo; على امتداد ست عقود أو ما يزيد، وأنا أتصور هنا أن تتحول جامعة الدول العربية إلى بؤرة لرصد أحداث المنطقة والتعامل معها وفقاً لمنظور مختلف تسعى الجامعة حالياً لاستشراف أبعاده والتلويح بطموحاته .

هذه ملاحظات سبع قصدنا منها وبها أن تكون محاور كاشفة للوضع الشرق أوسطي الراهن بكل ما يحمله من عوامل الانفجار وأسباب التوتر والقلق اللذين يسيطران على أجواء المنطقة مستبعدين ذلك التأويل الخبيث الذي يجعل الحديث عن التعاون مع دول الجوار إيحاءً غير مباشر بالمضي وراء فكرة الشرق الأوسط الكبير على حساب الخارطة السياسية العربية واضحة المعالم معروفة الجذور منذ البدايات، ولا ننسى إلى جانب إيران وتركيا تلك التخوم الإفريقية مع العرب ونقاط التماس المشتركة، بينهم وأشير بشكل مباشر إلى الأزمة الحالية بين دول حوض نهر النيل وهي محاولة أخرى لتطويق مصر والضغط عليها من أكثر الملفات حساسية وخطورة، فالمياه هي الحياة، وألفت النظر هنا إلى أن ذلك الملف سياسي استراتيجي تنموي بالدرجة الأولى يجب أن يقوم على قدر كبير من احتواء الأزمة ووأد المشكلة في أقرب أجل، مدركين أن الشراكة الاقتصادية والمشروعات الاستثمارية والبرامج المشتركة هي الكفيلة دون غيرها بانتزاع فتيل صراع جرى تدبيره والتخطيط له في السنوات الأخيرة استهدافاً لمصر التي قال عنها هيرودوت إنها هبة النيل .

هذه قراءتي العاجلة للعلاقات الملتبسة بين العرب في جانب وكل من إيران وتركيا بل وأشقاء الجوار الأفارقة في جانب آخر، وأقول مخلصاً إن المشهد الذي أراه يحتاج إلى صحوة قومية ويقظة وطنية وقدرة عصرية على التعامل مع الأحداث والمواقف بغير إرجاء للمواجهات أو ترحيل للمشكلات أو دفن للرؤوس في الرمال .