زين الشامي

قبل نحو أقل من مئة عام كانت غالبية المناطق والأقاليم العربية تحت سيطرة الامبراطورية العثمانية، وكان المواطنون العرب جزءا من رعايا السلطنة إلى أن اندلعت الثورة العربية الكبرى عام 1916 بقيادة الشريف حسين في الجزيرة العربية. في ذلك الوقت كانت الامبراطورية العثمانية تلقب بالرجل المريض، وتكالبت دول غربية عدة عليها لتنهش من جسدها المترامي الأطراف، لكن ما هي إلا أعوام قليلة حتى استفاق العثمانيون من غيبوبتهم، وأتى رجل اسمه مصطفى كمال أتاتورك ليخوض حروباً هنا وهناك، وليؤسس بنية الدولة التركية الحديثة، دولة تتطلع إلى الأمام، وتستلهم الحداثة، وتتكئ على العلمانية، تنفض الغبار الذي تراكم في البيت الداخلي، وتطرح الأمراض التي علقت بالجسد، أتاتورك لم يتطلع إلى بعث أمجاد الامة العثمانية، بل سعى الى دولة عصرية وتحدث عن أمة تركية.
في ذلك الوقت كان العرب الذين راهنوا على الاستعمارين البريطاني والفرنسي للتخلص من الامبراطورية العثمانية مستغلين ضعفها، قد اكتشفوا أنهم هربوا من الدلف الى المزراب كما يقال، وبدأوا من جديد رحلة التصدي للمستعمر الجديد الذي حل محل العثمانيين. كانت تركيا في ذلك الوقت قد تجاوزت محنة بناء الدولة الحديثة، لا بل عرفت كيف تفرض نفسها في اللعبة الدولية والصراع على مناطق النفوذ، واستطاعت أن تسلخ جزءا من الأراضي العربية لتضمها نهائياً إلى دولتها الحديثة.
العرب خاضوا معارك استقلالهم من جديد ضد المستعمرين الجدد، وتحقق لهم ذلك في أعوام مختلفة لكن ما هي إلا أعوام قليلة حتى وقعوا جميعاً في قبضة العسكر والجنرالات، وشهدت دول عربية عدة صراعات سياسية على السلطة انتهت جميعها بوصول الحزب الواحد إلى السلطة. ما زاد الطين بلة ان فلسطين ضاعت وتأسست إسرائيل في قلب الوطن العربي ليزداد المشهد سوداوية وكآبة فيما كانت تركيا تتقدم، وتتطلع غرباً، أدارت ظهرها للشرق إلى غير رجعة.
واليوم بعد نحو أقل من مئة عام عن القطيعة بين السلطنة العثمانية والأقاليم والولايات التي كانت تابعة لها في العالم العربي، ها هي تركيا الحديثة تعود من جديد إلى البحر المتوسط، وإلى قلب الدول العربية والأسواق العربية والثقافة العربية، لا بل إلى قلب المواطنين العرب الذين باتوا يجدون فيها أملاً ونموذجاً ومثلاً يحتذى.
العرب الذين رفعوا شعار الثورة العربية ضد السلطنة العثمانية واختاروا من ألوان رايتها أعلاماً لاحزابهم ودولهم وثوراتهم، باتوا اليوم يتطلعون إلى تركيا القوية كخشبة خلاص وقوة مساندة لهم في صراعهم مع إسرائيل. كيف حصل كل ذلك في أقل من مئة عام، كيف استطاعت تركيا أن تشد أنظار عموم العرب من المحيط إلى الخليج، ولما تركيا دون غيرها من الدول الإقليمية؟ بكل بساطة ليس لأن تركيا دولة عظمى، أو نموذج خال من السلبيات، فتركيا الدولة مازالت تعاني من سلبيات عديدة لعل في مقدمتها المسألة الديموقراطية، ومشكلة الأكراد، والتخلف في جنوبها وشرقها، إضافة إلى استمرار الهواجس من دور العسكر في الحياة السياسية، واستعدادهم للانقضاض على التجربة الديموقراطية في أي لحظة رغم انكفائهم في الأعوام الأخيرة.
ان السبب يعود إلى غياب الدولة العربية النموذج، إلى أن العرب لم يؤسسوا دولاً بالمعنى الحديث والمعاصر، على طريقة أتاتورك أو على الطريقة الاوروبية، بل بقوا في مرحلة ما قبل الدولة، قبائل وعشائر وأفخاذاً حتى لو كانت بمسميات حزبية قومية ووطنية، أو يسارية، أو اسلامية. الدولة العربية الحديثة كانت دولة قمعية بوليسية من لون واحد، وكانت دولة القبيلة والطائفة والعائلة. كانت دولة فاسدة، لم تبن جيشاً وطنياً بل أجهزة مخابرات، لم تبن تعليماً حديثاً، بل اجترت الماضي وأدخلت مواد حزبية وسياسية تمجد القائد والثورة والحزب لتحل محل علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات. أفسدت القضاء لأنها تخاف القانون والحق والمساءلة. قتلت معارضيها وعذبتهم ووضعتهم في السجون لأنها تخشى تداول السلطة. لم تبن اقتصاداً بل سرق رجالاتها الثروات الوطنية... لذلك ليس غريباً أن نتطلع إلى تركيا... وليس غريباً أن تكون اثيوبيا غداً نموذجاً لنا.