العجمي الوريمي


عندما أسّس جمال الدّين الأفغاني ومحمّد عبده جمعيّة العروة الوثقى ودعيا إلى جامعة إسلاميّة لم يكن هدفهما مناهضة الغرب ومعاداته أو التّمهيد لدورة جديدة من الحروب الصليبيّة ولم تكن نظرتهما إلى العلاقة بين الحضارات تقوم على الدّعوة إلى الصِّدام ولم يكن موقفهما من الحداثة موقف ازدراء وعداء ورفض، لقد كان هدفهما وصل مستقبل الأمّة بماضيها من خلال النّهوض بحاضرها عبر تفعيل القيم الإسلاميّة والقيام بإصلاحات سياسيّة وتربويّة بإعادة صياغة الذّات المسلمة كغاية ووسيلة لعمليّة التّغيير، لكنّ حركة الانحدار كانت أقوى من إرادة الاستنهاض. توقّف مشروع الجامعة وخبت جذوته وأخذ وجهات جديدة في صياغات أشدّ التزاما وأضيق أفقا وأكثر انطواء وكأنّما بانكماشها أرادت الجماعات الوريثة لحركة الإصلاح الاستعداد لوثبة كبرى تحطّم أغلال التّقليد وتحقّق التمكين للفكرة الإسلاميّة بعد غُربة هجمت خلالها الحداثة فدكّت كلّ الحصون واجتاحت موجاتها العاتية عبر الظّاهرة الاستعماريّة كلّ دفاعاتنا حتى الجدار الأخير جدار الدّين عنوان هويّتنا وأصالتنا وأمجادنا الماضية. ولقد كان سقوط الخلافة العثمانيّة لحظة حاسمة في هذا المنعرج التاريخي المأساوي.
لقد سُقت هذه المقدّمة كمدخل لفهم ما يجري حاليّا من أحداث من المرجّح أنّها ستغيّر قواعد التّعامل ومجرى الصّراع في منطقة الشّرق الأوسط وقد تؤذن بميلاد جامعة إسلاميّة جديدة وسطيّة لا شرقيّة ولا غربيّة.
دخلت العلاقات التركيّة الإسرائيليّة في أزمة مفتوحة، ولا يدلّ الخطاب السياسي للطّرفين أنّها ستشهد انفراجا قريبا، بل إنّها دخلت منذ الهجوم السّافر على السّفينة التركيّة التّابعة لأسطول الحريّة طورا جديدا أي أنّها ستكون في المستقبل على غير القواعد التي كانت عليها من قبل. لقد أقحمت إسرائيل منذ تلك اللحظة تركيا في ساحة الصّراع وأدخلتها من البوّابة الواسعة من حيث أرادت إنهاء دورها الإيجابي والبنّاء والنّشط. لقد صارت تركيا بامتزاج الدّم التركي بالدّم الفلسطيني وباستهداف علم دولتها معنيّة بالقضيّة الفلسطينيّة ومن موقع الشريك في أبعادها الإنسانيّة والأخلاقيّة والسياسية والحضاريّة والاقتصادية والإقليميّة، لقد كانت أقدر من أيّ طرف عربي أو إسلامي أو غربي على الوقوف على مسافة متوازنة بين الإسرائيليين والفلسطينيين وهي اليوم مؤهلة أكثر من أيّ وقت مضى وأكثر من أيّ طرف كان لأن تكون في طليعة الدّاعمين لرفع الحصار عن قطاع غزّة والعاملين ضدّ الظّلم الإسرائيلي المسلّط على الشعب الفلسطيني. إنّ رجب طيّب أردوغان ليس هو الأكثر راديكاليّة في موقفه من إسرائيل داخل حزب العدالة والتنمية، وحزبه الموجود في الحكم ليس أكثر الأحزاب التركيّة راديكاليّة في نظرته لتلّ أبيب وللصّراع في الشرق الأوسط ولكنّ فريق غُل-أردوغان-أوغلو ورفاقهم يتوخّون تجاه التعنّت الإسرائيلي نفس السياسة التي اتبعوها تجاه معارضي إصلاحاتهم في الدّاخل، في كلّ مرّة اصطدم فيها حزب العدالة والتنمية بمعارضة للإصلاحات السياسية والدستوريّة والقانونيّة إلاّ ولجأ إلى دعم الرّأي العام التركي الذي لولاه لما أمكن له إنفاذ حزمة من الإصلاحات الديمقراطيّة التي نالت استحسان الاتحاد الأوروبي ودعمه. وأمام التعنّت الإسرائيلي تلقى سياسة أردوغان المتوازنة والحازمة تأييدا متصاعدا من الشارع العربي والإسلامي بما يؤكّد الطّلب المتزايد على الدّور التّركي في غياب الدّور العربي خاصّة الجامعة العربيّة ومصر والسعوديّة. فكما حظي حزب العدالة والتّنمية داخليّا وأوروبيّا بدعم من الرّأي العام التركي فإنّ تمشّيه السياسي متوسّطيّا وعربيّا وفلسطينيّا يحظى بالمساندة الكاملة من الرّأي العام الإسلامي والعربي، وإذا كانت الشعوب العربية والإسلاميّة قد أعلنت في مناسبات سابقة ترحيبها بمواقف أحمدي نجاد وشافيز المتحدّية للكيان الصّهيوني وحليفه الأميركي والمساندة لقضيّتهم المركزيّة مثلما عبّروا عن تقديرهم لموقف جاك شيراك المعارض لبوش خلال التحضير للعدوان على العراق فإنّهم اليوم وهم ينزلون إلى الشوارع معبّرين عن الغضب العارم تجاه سياسة حكومة نتنياهو يتعلّقون بالزّعامة التركيّة التي يتابعون التطوّر المستمرّ في مواقفها ويأملون منها المزيد والخير الكثير، وقد عبّر الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عن نبض الشارع الإسلامي عندما نوّه بالدّور التركي وشجب التّقصير العربي الرّسمي. أمّا الطّرف الإسرائيلي المكابر والمعاند فلم يجد تبريرا لجرائمه إلاّ الادّعاء بأنّ جنوده المغيرين الذين قتلوا ثلّة من ركّاب سفينة الحريّة بدم بارد قد تعرّضوا للهجوم من قبل ضحاياهم ونسي نتنياهو والناطق باسم وزارة خارجيّة العدوّ أنّ عمليّة الاقتحام سمّيت laquo;هجوم رياح السّماءraquo; بكلّ ما يعنيه ذلك من العلوّ والتّفوّق وإضفاء صبغة دينيّة على الصّراع وجعل العدوان حلقة من حلقات تاريخه laquo;المقدّسraquo; تاريخ العلاقة الإشكاليّة laquo;للشّعبraquo; اليهودي مع بقيّة الشعوب. كما أنّ الطّرف الإسرائيلي قد تعلّل بأنّ منظّمي رحلة رفع الحصار على غزّة ليسوا إلاّ شبكة من الجمعيّات المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين رغم أنّ في ذلك الكثير من التّجريد والتّزييف المتعمّد للحقائق فيبدو أنّ الصّهاينة نسوا أنّ الإخوان المسلمين تحوّلوا منذ الحادي عشر من سبتمبر إلى طرف دوليّ معنيّ بالحالة الإسلاميّة من كابول إلى سراييفو إلى بغداد ومقديشو إلى غزّة المحاصرة كما أنّهم تجاهلوا أنّ حكومة هنيّة وحكومة أردوغان حكومتان شرعيّتان صعدتا إلى الحكم إثر انتخابات شفّافة لا غبار عليها وفازتا بأغلبيّة فاقت أغلبيّة أيّة حكومة إسرائيليّة وأنّهما بتصدّيهما للحصار إنّما تدافعان في نفس الوقت عن الديمقراطيّة وعن خيار شعبيهما. إنّ المثال التركي والفلسطيني يُعلنان بداية نهاية المزايدة الصّهيونيّة بالتّمايز على الجوار بالشّعار الديمقراطي وبالشرعيّة الانتخابيّة. إنّ الموقف التركي يقدّم رؤية للحلّ العادل في إطار منطق السلام مقابل رؤية إسرائيليّة ضدّ المنطق وضدّ القانون الدولي والشرعيّة الدّوليّة، ولا يمكن اتّهام تركيا بالعداء لإسرائيل أو عدم الاعتراف بها أو برعاية الإرهاب ودعمه وهي التي تقيم علاقات دبلوماسية طبيعيّة معها ربّما آن الأوان لمراجعتها. كما لا يمكن الطّعن في الطبيعة الديمقراطيّة للدّولة التركيّة بعد جملة الإصلاحات التي أنجزتها حكومة العدالة والتّنمية بكلّ تصميم في سنوات قليلة. إنّ أزمة أسطول الحريّة وطبيعة الردّ التركي وغضب الشارع التركي قد نبّهتنا إلى أنّ صوت الاعتدال لا ينبغي أن يكون صوتا خافتا أو ضعيفا ومن المهمّ أن تدعمه دولة لها ثقل تاريخي وحضاري وسياسي واقتصادي، فقد كان لدولة باكستان والمملكة العربيّة السعوديّة ولثورة 22 يوليو المصريّة دور أساسي في دعم مطلب استقلال عديد من الشعوب العربيّة وإنجاح ثوراتها وحركات تحرّرها، كما كان للثورة الجزائريّة بعد أن استقلّت الجزائر دور مهمّ في دعم مطالب ونضالات عديد من حركات التحرّر في إفريقيا وأميركا اللاّتينيّة، واليوم يحتاج الشعب الفلسطيني وقضيّته العادلة إلى هبّة واسعة من منظّمات المجتمع المدني العالمي ومن بعض الحكومات المنصفة والعادلة؛ كي تقول: لا لاستمرار مأساة الشعب الفلسطيني واستمرار سياسة العدوان لدولة الكيان الصّهيوني. لقد كانت قضيّة فلسطين دائما عامل توحيد للعرب، وحتى في زمن نهاية الأفكار الكبرى ظلّت فكرة الوحدة العربيّة حيّة، وذلك لارتباطها بقضيّة فلسطين، لكنّ التعامل مع إسرائيل كان موضوع خلاف وسبب فُرقة بين الدول العربيّة رغم أنّ التعامل مع إسرائيل هو تفصيلة في قضيّة فلسطين، ويزداد الوعي اليوم بأنّ توحيد التّمشّي هو وحده الكفيل بالوصول إلى الحلّ العادل. إنّ التّطبيع مع العدوّ ومسار التّنازلات ليس قدر أُمّتنا ولا هو بالخيار الذي لا يمكن الرّجوع عنه، وقد أثبتت موريتانيا والكويت وتركيا أنّ قواعد التّعامل مع الكيان الصهيوني يمكن تغييرها، بل ينبغي ذلك، فلم تجنِ أمّتنا بعد النّكبة -ومنذ خروج بورقيبة عن الإجماع فخروج مصر من الصّراع واعتراف بعض العرب بإسرائيل- غير الهزائم. وإنّ الثّبات على الحقّ ولو برفع غصن الزيتون فقط خير من الاستسلام للإرادة الصهيونيّة. إنّ عمر النكبة هو عمر الكيان الصهيوني وهو اليوم يعيش أزمة غير مسبوقة وإفلاسا سياسيّا وأخلاقيّا وعجزا عن التّأقلم مع محيطه، وبدأت الأزمة تمتدّ إلى علاقته بالإطار الحضاري والدّولي الذي أنشأه ويمدّه بالحياة وهو مطالب لا برفع الحصار عن غزّة بل بفكّ العزلة عن نفسه. فهل يقدر على ذلك دون تغيير تركيبته وطبيعته؟ لعلّ السياسة التركيّة قبل الاعتداء الأخير مسعى لإسعافه لكنّه على ما يبدو اختار طريق الانتحار.