محمد عيادي


المواقف القوية للحكومة التركية بقيادة طيب رجب أردوغان ضد إسرائيل عقب جريمتها ضد أسطول الحرية، جعلت الغرب يتساءل: هل أنقرة بصدد تغيير سياستها الخارجية؟
الجواب لم يتأخر وكان سريعا ببعث حكومة حزب العدالة والتنمية الاثنين الماضي وفداً من نوابه إلى واشنطن للقاء مسؤولين أميركيين ولوبيات ومؤسسات فكرية لتبديد مخاوفهم، والتأكيد على عدم وجود أي تحول في سياسة أنقرة الخارجية، وأن الحديث عن توجه تركيا لتصبح بلدا شرق أوسطي مجرد كلام.
الزيارة المذكورة جاءت بعد أربعة معطيات أساسية:
- اتهام وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس للاتحاد الأوروبي برفض تطلعات تركيا -العضو المسلم الوحيد في حلف شمال الأطلسي- للانضمام للاتحاد ودفعه للتوجه للشرق، ودعوته للتفكير في آليات لتقوية العلاقات التركية الغربية بشكل يفيد أنقرة.
- تحرك لوبيات سياسية وإعلامية خاصة في الولايات المتحدة ضد تركيا واتهامها بأنها ستصبح بعد سنوات قليلة إيران ثانية، وستتحول إلى دولة إسلامية وما إلى ذلك من التأويلات التي تفزع الغرب.
- تحقيق تركيا لهدف كبير جداً وهو تعرية إسرائيل وكشف أكاذيبها أمام العالم، وتحديداً الرأي العام الغربي الذي تفاعل بقوة مع المجزرة الإسرائيلية في المياه الدولية ضد مدنيين عزل من مختلف الديانات، وسلط الضوء بقوة على حصار غزة مما جعل كثيرا من القادة الأوروبيين والمنظمات الدولية يطالبون لأول مرة بفكه واعتباره انتهاكا للقانون الدولي الإنساني.
- عدم استثمار النظام العربي الرسمي بشكل عام تداعيات واقعة الهجوم على أسطول الحرية بالقوة المطلوبة لصالح فك الحصار عن غزة من جهة وتصحيح الوضع الفلسطيني وإعادة النظر في طريقة تدبير ملف ما يعرف بمفاوضات السلام.
حكومة أردوغان إذن تطمئن واشنطن، وتقول لها بطريقتها: إن غضبها مهما كان كبيرا لن يحول دون الحفاظ على مصالح تركيا الاستراتيجية وعلاقتها الدولية الأساسية مع الغرب، وفي هذا رسالة واضحة لكثير من الجماهير الشعبية وبعض التيارات السياسية التي علقت وبانفعال عاطفي وإحباط من الموقف العربي الرسمي آمالا كبيرة على تركيا ورئيس وزرائها في رفع الحصار عن غزة، وإيقاف العربدة الإسرائيلية في فلسطين المحتلة.
نعم تركيا أبلت بلاءً حسناً وضحّت بتسعة شهداء من أبنائها في سبيل فك الحصار عن غزة، ونجحت رفقة كل من شارك في أسطول الحرية من مختلف الشعوب والديانات في فضح إسرائيل أمام الرأي العام العالمي، لكن المعركة لا يمكن أن تستمر لنهايتها من دون دور أساس للمعنيين الأساسيين بالقضية، ذلك أن الدور التركي قد يكون عاملا مساعد وربما وسيطا، لكنه ليس حاسما بكل تأكيد، ولذلك فواشنطن بقدر ما هي منزعجة من أنقرة لهجومها القوي على إسرائيل بعد اعتدائها على أسطول الحرية وكشف وجهها القبيح للغربيين (كشعوب) الذين استفاقوا من تخدير البروباغندا الإعلامية الإسرائيلية، بقدر ما هي في الوقت نفسه مستفيدة من هذا الوضع؛ لأنه غطى على الدور الإيراني في هذا الملف وسحب منه البساط، ويؤهل تركيا أكثر لتكون وسيطا مقبولا بين الغرب والشرق في قضايا كثيرة معقدة.
وبالتالي، فإن الإدارة الأميركية ستسمح لتركيا بلعب هذا الدور وربما تدعمه بشرط ألا يضر بمصالحها ومحضونتها إسرائيل، الأمر الذي يؤكد ما سبقت الإشارة إليه من أن قضية رفع الحصار عن غزة وتدبير ما يسمى ملف السلام في منطقة الشرق الأوسط بطريقة عادلة لا يمكن أن يتم بالرهان على تركيا أو غيرها، ولا بالتعويل على وعود الرئيس الأميركي باراك أوباما، لأن الرجل وإن كان صادقا في وعوده، فهو محاط بتعقيدات وضغوط لوبيات وقضايا داخلية آخرها انتخابات التجديد النصفي للكونغرس التي ستجرى في نوفمبر المقبل، وما يعني ذلك من عدم قدرته على إغضاب هذا الطرف أو تلك الجهة المتنفذة لصالح الفلسطينيين والعرب على حساب مستقبله السياسي.
بمعنى آخر، لا بد من دور فاعل للمعنيين الأساسيين أصحاب المنطقة حكاما وشعوبا والرهان على أنفسهم أولا وقبل كل شيء من خلال ما اصطلح عليه المفكر المغربي والنائب البرلماني المقرئ الإدريسي أبوزيد بـ laquo;المصالحة العاجلة والشاملة والخالصةraquo; مقترحا أن تكون عبر ثلاث مستويات نختصرها في ما يلي:
- على المستوى الرسمي- الصرف: أن تكون المصالحة بين كل الأنظمة العربية والإسلامية بحل كل الإشكالات بينهم وتصفية الأجواء، والاقتداء بالاتحاد الأوروبي؛ لأن الزمن زمن التكتلات.
- على المستوى الرسمي- الشعبي: أن تكون مصالحة بين الأنظمة من جهة، وبين القوى السياسية والاجتماعية (مصالحة بين الحكام والشعوب)، وإغلاق ملفات الماضي على أساس الإنصاف والتراضي بين الفرقاء، وذلك كله على أرضية التعاون لحفظ مصالح الوطن والأمة ومواجهة العدو الصهيوني.
- على المستوى الشعبي الصرف: أن تكون المصالحة بين مختلف قوى المجتمع (أحزاب وجمعيات أهلية ومدنية، حركات إسلامية وعشائر وقبائل وأقليات دينية وعرقية ومذهبية) من خلال احترام الدساتير والقوانين المنظمة لحقوق وواجبات المواطنة، والإقرار بالتعددية وحوار خلاق والاحتكام إلى أساليب ديمقراطية لحل الخلافات، ونبذ العنف المادي واللفظي والفكري بين مختلف الأطراف.
وهذا الأمر يحتاج لجهد كبير جدا وإرادة قوية، لكنه السبيل لجعل الأمة العربية الإسلامية مؤهلة للقيام بدور فاعل وحاسم في حل قضاياها الكبرى كقضية فلسطين.