يوسف عبدا لله مكي

لقد كان المشروع الصهيوني في جذوره، استيطاناً أوروبياً، شبيها بالمشروع الأوروبي بجنوب أفريقيا، ولذلك ينبغي وضع الصراع في إطاره الموضوعي، وأن يعاد الاعتبار لضحاياه من عرب وفلسطينيين ويهود

ثلاثة وأربعون عاما مضت على نكسة حزيران/ يونيو، عام 1967م، وما يقرب من ثلاثة وتسعين عاما على وعد بلفور المشؤوم في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1917م، والذي كان المقدمة لهجرة يهودية مكثفة للأراضي الفلسطينية، وتشريد السكان الأصليين من ديارهم.
خلال الحقبة منذ النكبة حتى يومنا هذا، ساد منطقان، أحدهما عدمي يتوقع من الجيوش العربية، خوض حرب تقليدية تقتلع الكيان المصطنع, وقد أكد التطور التاريخي استحالة تطبيق ذلك. والآخر، تصفوي، حاول نشدان السلامة، والتسليم للغاصب بما استولى عليه، أملا في أن يكف عن ممارسة المزيد من الأذى. وقد أكدت مسيرة الأربعين عاما المنصرمة من الصراع، فشل هذه الاستراتيجية، أمام تمسك الصهاينة بتحقيق المزيد من المغانم.
لم يمتلك العرب استراتيجية ممكنة لهزيمة المشروع الصهيوني، وجل ما تحقق كان استجابات انفعالية، لتحديات متحققة. ولذلك غيب في تلك المواجهات التخطيط والإرادة والقدرة على الفعل. واتسم مسلسلها في الغالب بالتسرع والعاطفية وعدم وضوح الأهداف. فكانت النتيجة هزائم وكوارث متلاحقة للجيوش العربية، وتقدماً مطردا وحثيثاً للمشروع الصهيوني.
والنتيجة أننا اليوم أبعد ما نكون عن الاقتراب من هدف التحرير، حيث فشل المشروعان، العدمي والتصفوي، ولم يعد بالإمكان التعويل على العرب لقيادة الصراع مع الصهاينة، بالمدى المنظور، في ظل الخلل في موازين الصراع.
كيف السبيل إذن للخروج من المأزق الراهن؟. سؤال تقتضي الإجابة عليه إعادة تشخيص لطبيعة الصراع مع الصهاينة، والارتقاء بهذا التشخيص إلى مستوى حضاري وعلمي، يهدف إلى تحجيم القوى التي يتكئ عليها المشروع الصهيوني. وتحديد أهداف واستراتيجيات المواجهة.
وينبغي في هذا السياق الاعتراف بأن القيادات العربية، عانت من مراوحات كبيرة، ومن طرح شعارات ثبت بالدليل عجز تلك القيادات عن تجسيدها. كانت هناك شعارات ضخمة ولاءات كبيرة، تكشف عجزها، لينتقل بعد ذلك إلى تسليم كامل بشروط العدو.
وكانت هناك مواريث تاريخية ورؤى ثيولوجية خاطئة، خلطت بين الصهيونية واليهودية. وقد أدى هذا الخلط إلى التعامل مع اليهود بالأقطار العربية، باستثناءات نادرة، ليس بوصفهم مواطنين، لهم كامل الحقوق والأهلية في المواطنة بالبلدان التي نشأوا فيها، بل باعتبارهم رصيداً بشرياً احتياطياً للحركة الصهيونية. وهكذا جرى التعامل معهم بنظرة عدائية واستعلائية، وكان مصير كثير منهم الاضطهاد والطرد. وقد أضفنا بذلك السلوك، رصيداً آخر لإنجاح المشروع الصهيوني، حيث غادر كثير من اليهود من العراق واليمن وسوريا ومصر وليبيا وتونس والمغرب إلى الأرض الفلسطينية ليضاعفوا معاناة الفلسطينيين.
إن التمييز بين اليهودية والصهيونية، يشكل خطوة عملية في إعادة النظر إلى طبيعة الصراع، وتحديد الممكنات وصولاً لصياغة استراتيجية مواجهة صحيحة. ويجدر التنويه إلى أن فكرة اغتصاب فلسطين كانت في الأساس فكرة أوروبية، وكان نابليون أول من تنبه إلى أهمية موقعها حين زحفت جيوشه على مصر، ووصل إلى حدود فلسطين قادماً من شبه جزيرة سيناء. ولا شك أن قيام محمد علي باشا باحتلال بلاد الشام وتحقيق انفصال مصر عن السلطنة العثمانية قد نبه الأوروبيين من جديد إلى هذه المنطقة التي تشكل نقطة الوصل بين المشرق العربي ومغربه، وتربط القارة الإفريقية بالقارة الآسيوية، وكان ذلك هو إحدى الوسائل المانعة لالتقاء المشرق العربي ومغربه في وحدة، اتفقت القوى الاستعمارية على أنها ربما تشكل المدخل الصحيح لقيام إمبراطورية عربية قوية ومتينة، وذلك ما لا يسمح به عمالقة القوة.
لقد كان المشروع الصهيوني في جذوره، استيطاناً أوروبياً، شبيها بالمشروع الأوروبي بجنوب إفريقيا، وأيضا بمحاولات الفرنسيين فرنسة الجزائر، بتشجيع الفرنسيين على الهجرة للجزائر وبناء المستوطنات فيها، والعبث بهويتها وتاريخها ومنظومة دفاعاتها الثقافية. ولذلك ينبغي وضع الصراع في إطاره الموضوعي، وأن يعاد الاعتبار لضحاياه من عرب وفلسطينيين ويهود.
إن واقع الصراعات الإثنية والطبقية داخل المجتمع اليهودي ldquo;الإسرائيليrdquo; تؤكد هذا التشخيص. فهناك صراعات بين الإشكنازيين والسفارديين، وهي صراعات تجسد حقيقة النظرة العنصرية للمستوطنين الأوروبيين تجاه الأجناس والقوميات الأخرى. ولذلك يصبح مهماً التمييز بين اليهود الذين غرر بهم ودفعوا دفعاً للهجرة إلى فلسطين، وبين رواد الحركة الصهيونية الذين اجتمعوا في بازل ورسموا الخطط والاستراتيجيات، ووضعوا رؤوس الأموال وأقاموا التحالفات الدولية، وشجعوا اليهود للهجرة إلى أرض فلسطين على طريق الإعداد لاغتصابها في خطوات لاحقة.
هذا التمييز يقود إلى أهمية إعادة الاعتبار لمفهوم المواطنة لليهود العرب، والعمل على فصلهم عن المشروع الصهيوني، وإلحاقهم بالقافلة العربية، فقد ولدوا على هذه الأرض، وعاشوا فيها مئات السنين، وتشبعوا بعاداتها وثقافاتها، ولذلك فليست هناك أسباب لاستبعادهم. إن نفيهم قد ساهم ولايزال يساهم في ترسيخ انتمائهم للعقيدة الصهيونية، ووضعهم في الخندق المضاد للتطلعات والأماني القومية للعرب جميعاً. إن ذلك يقود إلى إعادة النظر في السماح لهم بالعودة إلى ديارهم في الأقطار التي أجبروا على الرحيل عنها، إما تحت ضغط الصهيونية العالمية، أو بالممارسات الخاطئة التي لحقت بهم في تلك الأقطار.
لقد رفض غالبية اليهود المصريين الهجرة إلى فلسطين، ورحلوا أثناء التهديد النازي باحتلال مصر، إلى الأرجنتين، ولا يزال أبناؤهم يتعلمون العربية ويتكلمون بها. وأثناء حرب لبنان عام 1982م رفض جنود من أصول مغاربية المشاركة في تلك الحرب، مما عرَّضهم إلى الاعتقال. وكان لليهود العراقيين المقيمين في الأراضي المحتلة موقف واضح رافض للحصار الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية على العراق، ومن احتلاله لاحقا.
هذا الحديث هو محاولة أولية لصياغة رؤية جديدة، نأمل أن يكون نصيبها الصواب، فعسى أن نواصلها في حديث آخر بإذن الله.