رغيد الصلح

تبدو القاطرة التي قادت عملية الاندماج الأوروبي وكأنها انقسمت إلى حافلتين: واحدة ألمانية والأخرى فرنسية . أزمة اليونان، حتى ولو خفت حدتها، خلفت آثاراً سلبية بعيدة المدى على العلاقة بين برلين وباريس، كما يرى بعض المحللين . التباعد بين البلدين له أكثر من سبب: ففيه جانب شخصي يتصل بالفرق بين شخصية أنجيلا ميركل التي تلتزم جانب الحذر والتأني في قراراتها، وشخصية نيقولا ساركوزي الفائض الحيوية إلى حد التسرع أحياناً . وفي جانب سياسي يتصل هذا التباعد بصعود ألمانيا بعدما حققت وحدتها . في ظل هذا التحول، اهتزت المساواة بين البلدين لمصلحة ألمانيا .

التباعد بين فرنسا وألمانيا ظهر عندما أطلقت كل من باريس وبرلين اقتراحين مختلفين لمعالجة الأزمة الاقتصادية الأوروبية الأثينية المنشأ . فإزاء هذه الأزمة دعت برلين إلى تطبيق معايير منطقة اليورو بدقة وحزم على الدول الأعضاء إلى درجة معاقبة المقصر منها في هذا المجال . هذه المعايير تشترط ألا يزيد العجز المالي لدى الدول الأعضاء في منطقة اليورو على نسبة معينة، فإذا تجاوز العجز هذه النسبة في إحدى هذه الدول اقترحت ألمانيا حرمانها من الحق في التصويت في المؤتمرات والمجالس الاتحادية . مقابل هذا الاقتراح، قدمت فرنسا اقتراحاً بإقامة حكومة اقتصادية أوروبية مختصرة، يكون لها الحق في اتخاذ التدابير المناسبة لمعالجة الأزمات .

لقد انقسم الجسم الأوروبي، كما أراده البعض، إلى فريقين: واحد يؤيد الاقتراح الألماني، وآخر يؤيد الاقتراح الفرنسي . ولكن الصورة لم تكن بهذه الدقة، والانقسام الحقيقي لم يكن هنا . فلو دقق المرء في الاقتراحين لوجدهما يبدآن من منطلق واحد، ألا وهو الرغبة في تعميق الاتحاد وإعادة الانضباط إلى صفوفه وتعزيز سلطة المركز (بروكسل) على الأطراف، أي الدول الأعضاء خاصة الوافدة حديثاً من أوروبا الشرقية . ويظهر الاقتراحان الألماني والفرنسي أقرب ما يكون إلى الأخذ باقتراح قديم يدعو إلى قيام أوروبا بطابقين: طابق للفدراليين الأوروبيين، وآخر لمؤيدي صيغة التعاون الأوروبي الفضفاض .

الدعوة الألمانية إلى فرض الانضباط على دول منطقة اليورو، تؤدي عملياً إلى تحويل الاتحاد إلى بيت بطابقين: واحد يضم 16 عضواً اختاروا الإسهام في تعميق الاتحاد الأوروبي ودفعه على طريق الفدرلة . أما الطابق الآخر الذي يضم 11 دولة من الدول الأعضاء، فإنه يضم أعضاء لم ينضموا إلى منطقة اليورو وبذلك آثروا، على الأرجح، أن يبقى الاتحاد كياناً فضفاضاً، أي منطقة تجارة حرة أو كياناً كونفدرالياً على أبعد تعديل . ولا يبتعد الاقتراح الفرنسي عن هذا المضمون، ذلك أن تشكيل الحكومة الاقتصادية الأوروبية تضم دول منطقة اليورو، هو خطوة أولى نحو تشكيل الحكومة السياسية التي تضم الدول إياها التي اختارت طريق تعميق الاتحاد . وهكذا تتفق ميركل ومن ورائها الألمان وساركوزي ومن ورائه الفرنسيون ولو اختلفوا، فقد تتعدد خرائط الطريق ولكن الهدف واحد ألا وهو تحقيق الاندماج الأوروبي، وتعزيز الدور الأوروبي المستقل في المجتمع الدولي .

إن هذا الفصل الجديد في السياسة الأوروبية يدل على أن الاندماج لم يعد خياراً أمام القادة الأوروبيين، بل أصبح حاجة لم يعد من المستطاع الإعراض عنها . ويقدم هذا الفصل الجديد في العلاقات الأوروبية أمثولة جديدة لنا في المنطقة العربية حول النهج الأفضل لبلوغ هدف التعاون الإقليمي الفعال بين الدول التي تنشده . ذلك أن بناة الاتحاد الأوروبي مثل جان مونيه وبول هنري سباك وشومان لم يسعوا إلى مجرد - تجميع - الدول الأوروبية في كيان فضفاض واحتفالي، وتنظيم القمم الأوروبية كمناسبات فوتوغرافية، بل تطلعوا إلى إقامة كيان أوروبي حقيقي قادر على تلبية حاجات الأوروبيين إلى إعادة بناء مجتمعاتهم وإلى رعاية مصالحهم في مجتمع دولي قائم على التنافس . لهذا السبب أسسوا الكيان الأوروبي وجعلوا الانتساب إليه مشروطاً بالتزام الدول الأعضاء بالفكرة الأوروبية أولاً وبالنظام الديمقراطي كسمة من سمات الهوية الأوروبية الجامعة ثانياً . بتعبير آخر، لم يكن كافياً أن تكون الدولة - أوروبية - حتى تنتمي إلى السوق المشتركة الأوروبية أو إلى الاتحاد، بل كان عليها أن تقبل - بالفكرة الأوروبية - وأن تظهر استعداداً للعمل من أجل الاندماج الأوروبي كشرط لقبولها عضواً في الاتحاد . وهكذا لما طلبت بريطانيا الانضمام إلى السوق، لم يقبل طلبها لسنوات، إذ شعر القيمون عليه وفي طليعتهم الجنرال شارل ديغول أن النخبة الحاكمة البريطانية لم تكن مؤيدة آنذاك للفكرة الأوروبية .

مقابل هذا النهج الذي ثبت فعاليته في أوروبا، اتبع مؤسسو جامعة الدول العربية أو - البيت العربي -، كما دعيت، نهجاً مختلفاً إذ فتحوا أبوابه لجميع الدول العربية من دون استثناء . وهكذا دخل هذه البوابة أحياناً دول لم تكن متحمسة للفكرة العربية، ولا للعمل من أجل تحقيق التعاون الإقليمي العربي الجاد والفعال . هكذا كسب البيت العربي العضوية الشكلية الواسعة التي لم تأته بالفاعلية ولا بالتماسك . وفيما تملك أوروبا اليوم، بقيادة القاطرة الفرانكو - ألمانية أن تتجه نحو البحث عن تعميق الاتحاد الأوروبي وتعزيز اللحمة بين دوله وإلزام الدول الأعضاء بمراعاة المصلحة الأوروبية الجامعة، فإن البيت العربي لا يملك مثل هذه المزية اليوم، خاصة بعد تفكك المحور المصري -السعودي- السوري، الذي مثّل قاطرة التعاون الإقليمي العربي . وإذا لم يتم إحياء هذا المحور فإن البيت العربي، سواء كان بطابق واحد أو أكثر، سوف يواجه بخطر التحول إلى متحف تعيش فيها الأحلام الضائعة .