عمّار علي حسن


عاشت بعض الجماعات والتنظيمات السياسية الإسلامية حيناً من الزمن تنتظر أن تنفتح أمامها الأبواب في سبيل أن تنفرد بسدة الحكم، أو بجزء منه. وظل أصحاب هذا اللون من التفكير والممارسة السياسية يعتقدون أنهم أحق بالقيادة من غيرهم ممن ينتمون إلى تيارات سياسية وفكرية ماج بها العالم العربي على مدار قرن كامل، تمكنت فيه من أن تسيطر على مقاليد الأمور. ولكن هذه التيارات لم تلبث أن فترت همتها وضعفت شوكتها وران عليها الجمود، وأفلست في أن تقدم مشروعات نهضوية قادرة على أن تقود العرب إلى نجاح متصل، بعد أن وقع أغلبها في فخ الأيديولوجيات المنفصلة عن الواقع، أو صار معلقاً بإرادة مستبدين، وجماعات ونخب فاسدة ومتسلطة.


وأمام تراجع الليبراليين بعد أن نالت الدول العربية استقلالها، وفشل القوميين في أن يحافظوا على المكتسبات المهمة التي حازوها قبيل رحيل الاستعمار وبعيد التحرر منه، بدأ نجم quot;الإسلاميينquot; العرب، وأخذ أصحابه يعدون العدة في أكثر من بلد عربي، آخرها مصر، بل لقد ركبت الثقة المبالغ فيها كثيراً منهم فراحوا يتيهون على الناس، معتبرين أن دورة التاريخ قد انتهت إليهم، وأن المستقبل لهم إلى الأبد، بعد أن جربت الجماهير العريضة غيرهم وخرجت خالية الوفاض، أو حصدت قليلا لا يسد كل الحاجات، ولا يلبي كل المطالب.

ويعتمد quot;الإسلاميونquot; في تعزيز خطهم البياني عربيّاً على أربعة أمور، الأول هو quot;المقاومةquot; بمعنى الاتكاء على أن عناصر إسلامية، تنتمي إلى جماعات وتنظيمات عدة، ترفع شعار المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، بل إن بعضها تمكن عبر quot;تنظيم القاعدةquot; من نقل المعركة إلى أرض quot;العدوquot;، وذلك من خلال الأعمال الإرهابية التي ينفذها التنظيم في أوروبا والولايات المتحدة.

والأمر الثاني يرتبط بحيازة جماعات إسلامية quot;معتدلةquot; ثقة جماهير أولتها لمرشحي quot;التيار الإسلاميquot; في انتخابات تشريعية جرت في أكثر من بلد عربي خلال السنوات الأخيرة. أما الأمر الثالث فيرتبط بتقديم quot;الإسلاميينquot; أنفسهم باعتبارهم quot;ضحاياquot;، أو جماعات quot;مضطهدةquot;.

والعنصر الرابع يتمثل في إلحاح الإسلاميين على حقهم في نيل فرصتهم، كما نالتها التيارات السياسية والفكرية الأخرى، وهذا الإلحاح واضح عياناً بياناً في كتاباتهم عن أنفسهم وعن الآخر، وفي شعاراتهم السياسية وأهمها quot;الإسلام هو الحلquot;، وفي عملية التلقين المستمرة التي يقوم بها قياداتهم ورموزها لأتباعهم.

غير أن هذه العناصر الأربعة تتجاهل أموراً عدة، أو تقفز عليها بشكل متعمد، أولها أن حركة المقاومة لا تعتمد على الإسلاميين فقط. ففي فلسطين لا يمكن أن نختزل الكفاح ضد الاحتلال في سلوك quot;حماسquot; وquot;الجهاد الإسلاميquot; ونهيل التراب على تاريخ من النضال تحت راية quot;فتحquot; وفصائل يسارية لا تزال تقاوم حتى هذه اللحظة.

والأمر الثاني هو وجود ضحايا آخرين، يساريين وليبراليين، لبعض الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، يدفعون أيضاً ثمناً لنضالهم من أجل حياة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية أفضل، وهذا معناه أن التيارات الأخرى لم تترك الراية في يد quot;الإسلاميينquot; فقط.

أما الأمر الثالث فهو قصور نظرة بعض الإسلاميين إلى الديمقراطية، وإجراءاتها أو آلياتها، ومنها الانتخاب. فالامتثال للنهج الديمقراطي والرضا به وسيلة للحكم يجعل من اعتقاد هؤلاء بأن التجريب السياسي انتهى إليهم وأنهم بمنزلة quot;نتيجةquot; لكل المقدمات التي توالت في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، هو اعتقاد خاطئ، يفتئت على متطلبات الديمقراطية نفسها، ولا يجعل الناس مطمئنين كثيراً إلى أن التنظيمات والجماعات الإسلامية المسيّسة قد آمنت بالتعددية السياسية وتداول السلطة، أو آمنت بإقامة quot;الشرعيةquot; على اختيار الجماعة، خاصة في ظل عدم إيمان فصيل فاعل من الحركة الإسلامية بعملية الانتخابات.

إن ارتفاع صوت الإسلاميين على ما عداهم، وامتلاكهم قدرة على الحشد والتعبئة، هي أمور لا يمكن نكرانها. كما أن رغبة quot;الإسلاميينquot; في العمل بين الناس، هي حق لهم كجماعات، وتيار سياسي فرض نفسه. لكن حتى تضيف هذه الحركة وذلك التيار إلى رصيد الأمة، فلابد من تطوير فكرها السياسي، بترشيد جموحها إلى نيل السلطان بأية طريقة، وترسيخ إيمانها بحق التيارات السياسية الأخرى في التواجد والاستمرار والعمل، وبناء قدرة على التفاعل الخلاق مع العالم الخارجي، وقبل كل ذلك تقديم برامج واقعية ومدروسة للنهوض بالواقع العربي المتردي، وآليات تضمن أن حلول الإسلاميين محل الآخرين، ليس تبديلا للوجوه، ولا وضعاً للافتة جديدة على quot;منشأةquot; قديمة، أتى عليها الظلم السياسي والاجتماعي، فأصبحت جداراً يريد أن ينقض.

ولكن لا ينبغي لـquot;الإسلاميينquot; أن يتغافلوا وهم يفعلون كل هذا أن مشروعهم بشكله القديم قد انتهى، وأن أفكاراً وإجراءات من خارجه قد اقتحمته، ولا فكاك منها، وأن حاجة quot;الآخرquot; الغربي إلى خلاص روحي وتسامٍ أخلاقي أكبر من حاجته إلى مشروع جديد للدولة. وإن لم يفهم quot;الإسلاميونquot; هذه المعادلة جيداً فإن مسارهم الأخير الذي عاش قرناً كاملا مآله إلى التراجع.