محمد خليفة

العالم العربي ينبغي ألا تكون له استراتيجية سياسية متكاملة ينبثق عنه نظام عربي جديد، وتحويل دنيا العرب إلى فسيفساء من القوميات والطوائف والمذاهب وساحة لعلاقات التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية . هذا ما قاله دوغلاس فايث الرجل الثالث في وزارة الدفاع الأمريكية في عهد الوزير السابق دونالد رامسفيلد في كتابه بعنوان ldquo;الحرب القرارrdquo;، وفي الصفحة التالية لمقدمة الكتاب وضع فايث خريطة تُظهر العراق مقسّماً إلى ثلاث دول . كما تحسم حدود ldquo;إسرائيلrdquo; التي لم ترسم حدوداً لنفسها حتى الآن، بحيث تشمل المناطق المحتلة التي تجري المفاوضات بشأنها، مثل الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة والجولان السوري .

ولعل أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو: ما مقصد دوغلاس من وراء نشر هذه الخريطة في صدر كتابه؟ وهل لهذا الأمر علاقة بالسياسة الأمريكية المرسومة للمنطقة، باعتبار أنه كان مقرّباً من دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة؟

لا شك في أن هذه الخريطة لا يمكن أن تكون أضغات أحلام منه، وهي تعكس حقيقة المخططات التي تم تنفيذها عن طريق الولايات المتحدة، ولا عجب في ذلك، لأن السياسة الأمريكية تجاه العالم العربي مفصّلة على مقاس ldquo;إسرائيلrdquo;، ومصالح هذه الدولة مقدمة على مصالح غيرها من الدول العربية . وتفضيل ldquo;إسرائيلrdquo; ليس مجرد وهم، بل هو حقيقة واقعة كل يوم منذ ولادتها عام 1948 . وقد يتساءل المرء، كيف يمكن لكيان صغير مثل ldquo;إسرائيلrdquo; أن يتحكّم في دولة عظمى مثل الولايات المتحدة؟ الواقع أن هذه الحالة منقطعة النظير في كل تاريخ الدنيا، وهي غير موجودة إلاّ في أسطورة هرقل، الذي غضب عليه أبوه زيوس فجعل أضعف إنسان في بلاد اليونان يتحكّم فيه .

ولا شك في أن السبب الأساسي والوحيد في هذه العلاقة غير المتكافئة بين الولايات المتحدة وrdquo;إسرائيلrdquo;، هو أن الصهاينة هم الذين يملكون القرار في الولايات المتحدة وهم الذين يسيّرون السياسة الأمريكية . أما كيف استطاع هؤلاء السيطرة على تلك الدولة العظمى، فإن هذه القضية شرحها وليام جاي كار في كتابه ldquo;أحجار على رقعة الشطرنجrdquo; . وعلى الرغم من أن كثيراً من العرب يرفضون القول إن الصهاينة يقودون أمريكا، اعتقاداً منهم أن ذلك يدخل في إطار فكر المؤامرة الذي لا يؤمنون به، فكيف يمكن لهؤلاء أن يفسروا الانحياز الأمريكي ل ldquo;إسرائيلrdquo; على حساب جميع الدول العربية؟ لا شك في أن السياسة بين الدول تحرّكها المصالح وليس العواطف، ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة العربية هي مع العرب وليس مع ldquo;إسرائيلrdquo; . لكن السياسة الأمريكية تخالف هذه القاعدة وتفضل ldquo;إسرائيلrdquo; على العرب . والواقع أن الكثير من رجال السياسة والمثقفين الأمريكيين يعرفون هذه الحقيقة، ولكنهم لا يستطيعون التصريح بها . والآن، بعد أن دمّروا العراق، يريدون صياغة عالم عربي جديد يكون خالياً من الدول الكبيرة، بل يكون عبارة عن دويلات طائفية وعرقية متصارعة فيما بينها، وميداناً لحرب باردة ضارية، تتحول إلى حرب ساخنة وتنفجر بحروب وثورات أهلية . وفي هذا الوقت تكون ldquo;إسرائيلrdquo; قد ابتلعت كامل فلسطين، وتكون قد رسّخت وجودها في الجولان، وتصبح آنذاك قادرة على الانطلاق نحو المرحلة الثانية والأخيرة، وهي بناء ldquo;إسرائيلrdquo; الكبرى من الفرات إلى النيل . ولا شك في أن خريطة دوغلاس فايث ليست سوى جزء من الخريطة الكبرى التي ينفّذها الصهاينة بصبر وهدوء، بهدف تدمير الأمة العربية والإسلامية وإبعادها عن وظيفتها الضخمة في هذه الأرض، وعن مكانها العظيم في هذه البشرية، وعن دورها الأساسي في حياة الناس . فالمطلوب من العالم العربي والإسلامي التعبئة لمواجهة هذه الأحداث وهذه التصورات والمخططات، وكشف أقاويل الظالمين الذين لا يقفون عند الحجة والمنطق . وإذا كانت ldquo;إسرائيلrdquo; الآن قد ابتلعت أكثر من ثمانين في المائة من أرض فلسطين فإنها تخطط لابتلاع ما تبقى من الضفة، ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة وزيادة التغلغل في الجسم العربي من خلال نسج المؤامرات وافتعال الأزمات، وبالتالي التحكم فيهم وفي مستقبلهم . وهكذا تعيش ldquo;إسرائيلrdquo;، وتتفكك هذه الأمة، وتنتهي قضية فلسطين .