عبدالوهاب بدر خان


لعل الوقائع والشهادات الأخيرة في التحقيق البريطاني حول قرار الحرب على العراق ساهمت في تعقيد مهمة لجنة جون تشيلكوت، صحيح أنها حددت لنفسها أهدافا متواضعة، وأن لهجة تقريرها في النهاية لا يتوقع أن تكون اتهامية، إلا أن مجرد توصيفها لآلية اتخاذ القرار والتفاصيل التي استند إليها والدوافع التي انطلق منها، لابد أن يفتح أبوابا ومجالات واسعة للاستنتاج بأن ثمة أخطاء قد ارتكبت، ما يعني أنه ستترتب على ذلك امكانية المحاسبة وربما المحاكمة، وفقا لاجتهادات تبن على خلاصة عمل اللجنة.
معلوم ان هذا هو التحقيق الثالث من نوعه الذي يتناول الحرب ومشاركة بريطانيا فيها، لكنه التحقيق الأكثر دقة الذي يعول على مصداقية، غير أن اللجنة نبهت منذ البداية إلى أنها لن تتحول إلى هيئة محاكمة للمسؤولين، أو بالأحرى للمسؤول الوحيد توني بلير، وقد تحرص على تجنب التمهيد لأية محاكمة، وإذ حاولت الهيئات الممثلة لمعارضي الحرب أن تلفت أعضاء اللجنة إلى أنهم مطالبون بنقد الشهادات لا الاكتفاء بتسجيلها، فإنهم لا يأملون بالكثير.
لو لم تكن هناك إشكالية مرتبطة بروحية القوانين وبطريقة عمل دولة القانون لما كانت الاعتراضات ولما كان هذا التحقيق، ولو لم يكن هناك اقتناع لدى الحكومة السابقة، برئاسة غوردون بروان، أن الحرب قسمت الرأي العام، بل قسمت حزب العمال نفسه، لما اضطرت إلى الموافقة على التحقيق بعد تردد طويل، ومع ذلك هناك أمران سيؤثران في مخرجات عمل اللجنة، الأول يتعلق بالخلفيات السياسية لأعضائها، وارتباطاتهم وقناعاتهم وقد سبق للإعلام البريطاني أن شرح كل هذه العناصر، مشيرا إلى أن معظم الأعضاء جاؤوا من حساسيات مجندة للاهداف غير المعلنة للحرب، وابرزها مصلحة الغرب عموما ومصلحة اسرائيل خصوصا، أما الثاني فيستند إلى أن القضاة يحجمون عادة عن اصدار أي احكام وتقييمات يمكن أن تمس بمصلحة الدولة، أو يمكن أن تحرج النظام، وهذا ما أدركه بلير دائما وتمترس وراءه واثقا بأن رجل الدولة، حتى في دولة مؤسسات لديه هامش واسع للتصرف، أولا لأنه منتخب أي ينبغي أن يكون مسؤولا، وثانيا لأن تجمع المعطيات عنده يعطيه صورة شاملة عن الوضع الذي يتعامل معه هذا إذا اراد النظر إلى تلك الصورة.
أصبح واضحا الآن من خلال الشهادات، ان بلير اتخذ قرار المشاركة في الحرب بمفرده، وقبل ان يسأل أو يستشير احدا، إذ اسر اليه الرئيس الأمريكي بأنه ذاهب الى الحرب وسأله هل سيقف الى جانبه، فأجاب رئيس الوزراء البريطاني بالإيجاب، كان ذلك مطلع سبتمبر 2002، وبناء عليه أصدر بلير الملف الشهير الذي بات مؤكدا انه صيغ في الاتجاه الذي يهيئ بريطانيا للحرب، وانه خضع للتضخيم والتلفيق لزرع فكرة ان اسلحة الدمار الشامل لدى النظام العراقي السابق تشكل خطرا داهما على بريطانيا نفسها، في ذلك الحين وهذا ما أصبح معروفا الآن، تلاعب اعوان بلير بالمعلومات الاستخبارية التي كانت متحفظة في التحذير من ذلك الخطر، وفيما أعلن بلير 24/9/2002 في ذلك الملف ان صدام حسين يستطيع تشغيل الاسلحة الفتاكة خلال خمس وأربعين دقيقة ليضرب الأراضي البريطانية وقد تبرأ معظم الشهود الاستخباريين وفي طليعتهم الرئيسة السابقة للمخابرات الداخلية (إم آي 5) إليزا مونينغهام بولر من هذا التقييم المثير، وهي قالت إنه طلب من جهازها أن يضيف ولو معلومات قليلة الى الملف لكنه رفض لأنه لم تكن لديه معلومات ذات مصداقية ليستند إليها.
لم يأخذ بلير بالمعطيات الاستخبارية التي لم تؤكد وجود علاقة بين نظام صدام وتنظيم القاعدة، ولا أخذ بنصائح المؤسسات الأخرى، فوزير العدل نبهه الى ان الذهاب الى الحرب يعني انتهاك القانون الدولي، ووزير الخارجية الح على وجوب الاستناد الى قرار من مجلس الامن واجهزة الامن حذرت من مخاطر داخلية، لكن بلير تجاهل عمليا كل ما يثنيه عن تنفيذ ما وعد به جورج دبليو بوش، حتى ان الرجلين نسقا الادوار لايجاد تناغم بينهما في عملية تحضير الرأي العام الى ان الحرب ضرورية ولا مناص منها، بل انها ذات رسالة أخلاقية.
عندما واجه بلير لجنة التحقيق في 29/1/2010، أراد أن يترك لدى أعضائها خلاصة وحيدة واضحة فالعراق الآن افضل، والعالم أكثر امنا وامانا، لكن مونينغهام بولر كانت أكثر واقعية بقولها ان تورطنا في الحرب دفع جيلا كاملا من الشباب الى التطرف لأنه رأى في مشاركتنا في حربي أفغانستان والعراق هجوما على الإسلام.
ولا يزال التهديد كبيرا بل انه يمتد ويتطور باشكال مختلفة، وينظر اليوم الى شهادة الرئيسة السابقة للاستخبارات الداخلية على انها قد تكون دفعت التحقيق في اتجاه غير متوقع، قد يحتم استدعاء بلير مجددا ليجيب عن اسئلة جديدة.
بعيدا عن التسريبات التي بدا ان معظمها كان صحيحا في حين كان لافتا ان الاجهزة والمؤسسات التي يفترض ان تقدم المعلومات والمشورة اشارت جميعا من قبيل الدفاع عن هيبتها ودورها، الى انها قامت بعملها ولم يؤخذ برأيها، ولا يعني ذلك سوى ان رئيس الوزراء تعمد التضليل والكذب دعما لقرار اتخذه مسبقا وبمفرده ولا يزال حتى الآن يرفض أي تشكيك فيه، لكن النتيجة اثبتت انه أخطأ حتى لو لم يعترف، قد لا تعتبر لجنة التحقيق أنها ملامة تجاه الرأي العام، الذي تأكدت مآخذه، لكنها مدعوة للتعامل مع حالة بالغة الاحراج للنظام، والأهم ان تقريرها يجب أن يأتي رادعا ومحذرا من تكرار التفرد في القرار.