إياد الدليمي


كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة والنصف صباحا، في يوم يوليوي لاهب، كأيام العراقيين، عندما حطت الطائرة في مطار بغداد الدولي، لتبدأ بعدها رحلة البحث عن الوطن بين ركام سنوات الجمر والموت والدمار والقتل والتشريد.
كل شيء في بغداد يذكرك بما جرى، أرض المطار التي ما زالت تعاني من بقايا الأسلحة المحرمة التي ألقيت عليها إبان الغزو الأميركي، وهي التي لا تزال متمنعة عن البوح بأسرار اللحظات الأخيرة من أيام صمودها في وجه القوات الغازية، الطريق السريع الذي يربط المطار بالعاصمة بغداد، الذي كان في يوم من الأيام يسمى بطريق الموت، حيث عجزت القوات الأميركية بعد احتلالها بغداد عن استخدام الطريق لنقل جنودها بفعل ضربات المقاومة العراقية، قبل أن تلجأ تلك القوات إلى تجريف كل البساتين التي كانت تحف جانبي الطريق بحجة ملاحقة المقاومين. وللبيوت قصة أخرى، فآثار الرصاص ما زالت محفورة على جدرانها، وهي تشي بالكثير مما كان يجري هناك، سنوات وهذه المنطقة المحيطة بالمطار الدولي تعد واحدة من أكثر المناطق صمودا ومقاومة للقوات الغازية، حتى صارت الجدران الكونكريتية تلتف كأفعى حول الأحياء المقاومة والقريبة من مطار بغداد.
رغم كل شيء، فإن بغداد ما زالت تحتفظ بألقها، برونقها الخاص الذي لم تفسده سنوات الموت والقتل والتدمير، رغم كل شيء، ما زال هناك أكثر من سبب لزيارة بغداد، فعلى وقع أيامها القاسية، تنتصب مدينة التاريخ بقامتها الفارعة، كنخلة عراقية، ترفض أن تنكسر، فهي لا تعرف الموت أو الخنوع. لا أحد في بغداد يريد أن يعرف ماذا يدور بين الساسة من سجالات وخلافات، لقد ملّوا وسئموا تلك الأخبار، بل لا تجد أحدا منهم مهتما بمتابعة الأخبار سواء العراقية وغير العراقية، وكأنهم يقولون إن السنوات التي مرت علمتهم أن يتركوا السياسة للسياسيين، أو قل إن شئت الدقة إنهم ملوا كذب الساسة، كما عبّر عن ذلك العديد منهم، فلم يعودوا يثقون بهم.
تحدثك الشوارع البغدادية عما جرى لها، لا داعي أن تسأل الناس، فالحفر الكثيرة والأسوار المهدمة، والأتربة التي تغطي جانب الطريق، كلها دلائل على ما جرى، هنا كانت المقاومة العراقية تصول وتجول، وتحوّل ليل القوات الغازية إلى جحيم، وهناك كانت البيوتات العراقية مستعدة لاستقبال هؤلاء المقاتلين وإخفائهم، كل ذلك قبل أن تفعل الفتنة الطائفية فعلتها بالعراق والعراقيين.
بالمناسبة، وأنت تسير وتتجول في بغداد لا تجد مكانا للطائفية بين العراقيين، حتى تتساءل، من كان يتقاتل إذن؟ وبسرعة يرد عليك سائق التاكسي: laquo;إنهم الساسة والأحزاب والدول الخارجيةraquo;.
نعم.. لا مكان للطائفية بين العراقيين، ففي إحدى أعرق أسواق المدينة laquo;الشورجةraquo; تجد عراقيين من مختلف الطوائف والأعراق يبيعون ويشترون، دون أن تستطيع التمييز بين طائفة هذا أو عرق ذاك، وهو حال ينطبق على أغلب مناطق بغداد التي ما زالت تحتفظ بخريطتها الاجتماعية التي تضم الجميع بلا تمييز.
العراقيون قادرون على أن يصنعوا أفراحهم رغم المآسي التي تحيط بهم، كنت أتجول في منطقة الأعظمية ببغداد ليلا، الشوارع كانت مزدحمة، مررت على شارع الكورنيش، كان يعج بالحركة، ومئات الشباب يرقصون على أنغام الموسيقى العالية، كنت أظن أن هناك فرحا، إلا أن رفيقي في الجولة قال لي إنها حالة يومية، نعم إنهم يصنعون أفراحهم بعد أن يئسوا من أن يصنعها لهم أحد، وأن يسعدهم أحد.
ما زال لدى بغداد الكثير من القصص والحكايات التي يمكن أن تسمعها، ففي هذا الحي laquo;زفة عرسraquo; بغدادية، العروس شيعية والعريس سني، وفي حي مجاور يحدث العكس، بل ويتطور الأمر إلى زفة عرس لفتاة سنية من شاب كردي، أخذ عروسه وطار بها إلى السليمانية لقضاء شهر العسل.
بغداد وأحياؤها تقول لك إنها ما زالت بخير، وإن أهلها ما زالوا عراقيين بامتياز، وهي لا تريد أكثر مما عبر عنه شيخ عراقي طاعن في السن عندما سألته: laquo;كيف حالك؟raquo; فرد بعفوية: laquo;والله احنا بخير بس الله يكفينا شر السياسيينraquo;.