خلف الحربي


الزميل العزيز محمد التونسي رئيس التحرير ضاق ذرعا بنقاشي معه حول مقال رأى أنه غير صالح للنشر، كان يعرف أنني أحد المصائب التي ابتلي بها في هذا الزمان الصعب، وأنني لن أتوقف عن محاولة إقناعه بأن هذا المقال يمكن أن يغير مستقبل الشرق الأوسط، لذلك قال فجأة: (خلف .. ما رأيك أن تكتب عن أغرب رسالة تلقيتها هذا الأسبوع، صدقني ستكون فكرة لطيفة جدا؟) أدركت أنه بشكل أو بآخر يريد أن (يمسكني الخط السريع) ويتخلص من حيلي المباغتة بحيلة أسرع من أن تلتقطها كاميرات (ساهر)!. في اليوم التالي كنت مضطرا لتنبيش بريدي الإلكتروني بحثا عن معلومات معينة فوجدت نفسي أمام رسالة جاءت من العراق فقررت أن أمنحها لقب (أغرب) ليس لأنها كذلك فعلا بل لأنها كانت ردا متأخرا جدا على مقال نشر بتاريخ 13 أبريل 2009 تحت عنوان laquo;غفوة في سرير صدامraquo; ونقلته عن laquo;عكاظraquo; بعض المواقع الإلكترونية العربية، وهو مقال أتذكره جيدا لأنه جلب لي حينها صداعا غير متوقع بسبب رسائل الاحتجاج من عشاق صدام حسين في مختلف أنحاء الوطن العربي، والذين لم يشفع لي عندهم وضوح القصد من ذلك المقال، وهو أن السلطة المطلقة لا تدوم لأحد فحتى صدام حسين الذي كان مجرد نطق اسمه يثير الرعب في نفوس الناس تحولت قصوره إلى منتزهات عامة يشوي الفقراء الكباب في أرجائها الفسيحة ويلعب الأطفال كرة القدم في حدائقها الغناء!. يقول الدكتور محمد الخفاجي في رسالته التي أنقلها لكم حرفيا: (أخي العزيز .. أنا عملت كعامل بناء بسيط في أحد قصور المقبور صدام في مرحلة الدراسة الجامعية حيث لم أجد ما يعينني على تكاليف دراستي الجامعية في كلية الطب غير العمل كعامل بناء في العطلة الصيفية، ولم يكن في العراق أي بناء خلال عقد التسعينيات سوى قصور صدام وقصور طغمته وكان الحصول على عمل يتطلب واسطة وموافقات أمنية قد تصل للسؤال عن أجدادك الذين لم يبق الدود من عظامهم في قبورهم شيئا، ولكن الله سهل عملي في القصر بسبب كون ابن خالتي يعمل كمهندس في دائرة المشاريع التابعة لديوان الرئاسة وكان المقاول الثانوي البسيط يتعمد امتهاني كوني في كلية الطب وهو لم يكن يحمل حتى شهادة الابتدائية، وفي أحد الأيام حضر طاغية العراق إلى القصر ليشاهدنا ونحن نبني قصر الفرعون، وتم جمعنا على عجل من قبل رجال الأمن وطلبوا منا أن نهزج له، ووقف أمامنا بتعال وعنجهية وكانت هذه أول مرة أراه مباشرة، ولم تكن هناك كاميرا لتصور الحدث، وبعد أن أنعش شيطان العنجهية الذي في داخله بأهازيج العمال الجوعى والمساكين دخل إلى القصر مع المهندسين ومدير الموقع، وكان يحمل عصا بيده وأخذ يتفرج على المرمر الإيطالي الغالي الثمن الذي أمضينا أسابيع في رصفه على الجدران والأرضيات، وقال للمدير: لماذا جلبتم هذا اللون ألم آمركم بجلب لون أبيض يميل للخضرة؟!، فتلعثم المهندس وقال له: سيدي هذا لون أبيض وبه شرايين خضراء، فصرخ الطاغية الأهوج: ياولو .. أنت تعلمني بالألوان؟!، فسكت المهندس وكان يرتجف كما سعفة النخيل التي أزال منه صدام الملايين في ساعات هوجه وطيشه، ثم طلب صدام من الحماية الخاصة أن يضربوه حتى يجيد معرفة الألوان!، وبعد ذلك طلب من المهندس المقيم أن يزال العمل وأن تجلب أنواع أخرى بدلا عنها، ورغم أن هذا يعني دخلا إضافيا لي لأن العمل سوف يستمر أياما أخرى إلا أن عيني كانتا تدمعان بدون إرادتي وأنا أحمل أنقاض المرمر الإيطالي الثمين لأرميها خارجا وأبكي على ثروات بلادنا التي يسرف في حرقها هؤلاء المجانين والحمقى الذين تمكنوا من رقابنا ومن حاضرنا واستباحوا مستقبلنا .. ثم سلمونا للمحتلين!raquo;.