خيري منصور
تنتهي أحداث كبرى أو ظواهر تاريخية لكن ظلالها تبقى، ليس لأنها كالكواكب التي انقرضت، وبقي نورها مسافراً إلى الأرض، بل لأنها اقترنت بعادات تفكير وذهنيات لم تستطع أن تفك الارتباط بالحدث أو الظاهرة فور انتهائهما . المثل الأبرز في هذا السياق هو الحرب الباردة بمجمل أدبياتها السياسية وخطابها المتوتر، فهي انتهت بالفعل، وكانت إضافة الحرب العالمية الأولى سبباً في اعتبار المؤرخين للقرن العشرين بأنه أقصر قرون التاريخ، لأنه بدأ فعلياً عام ،1914 وانتهى عام ،1990 بخلاف القرن الذي سبقه ومهّد له، وهو القرن التاسع عشر أو قرن الأيديولوجيات كما يسمى حيث انتهت الحرب الباردة، وبقيت أصداؤها وظلالها، وثمة من يعانون إضافة إلى ذلك من نوستالجيا أو حنين عارم إلى تلك الفترة التي كان فيها من الهوامش ما يكفي لأن تجد الدول الصغرى متنفساً، وتكون لها بالتالي تسعيرة سياسية بسبب صراع القطبين .
وما يقال عن الحرب الباردة يمكن أن يقال بدرجة أبسط وأقرب إلى المألوف اليومي عن الكهرباء، فقد بقي الناس زمناً طويلاً يفكرون بعادات ما قبل الكهرباء، ويتعاملون مع الليل بالحذر ذاته، رغم أن هذا الاكتشاف حرّر الظلام من أشباح طالما أرعبت البشر، وفي عالمنا العربي هناك دول ومؤسسات وأفراد، لم يغادروا نهايات القرن العشرين، إما لتشبّثهم بالتوازن الذي حققته الحرب الباردة نسبياً، أو لأنهم يصرون على عدم الإقرار بالأمر الواقع، لهذا بقيت التضاريس السياسية التي تحدد الأحجام والأدوار السياسية الإقليمية أقرب إلى الذكريات . وما تبدل ليس ظاهرياً أو ثانوياً، إنه في صميم هذه التضاريس بعد أن سقطت دول كانت تصول وتجول، وذات نفوذ، ونهضت أخرى ثم سعت إلى حرق المراحل لتسديد مديونيات سياسية فرضت عليها في زمن ما .
وإذا كان منطق التاريخ وما يكرره فلاسفة الحضارات، هو أن من يخفق في التأقلم مع المتغيرات والانقلابات الكبرى تدوسه العجلات، فإن هذا المنطق يشمل مجالات أخرى عديدة أيضاً، بدءاً من الفنون والآداب، حتى الحراك السياسي والديناميات الاقتصادية . فالمكوث في الماضي، تعبيراً عن قوة الحنين، هو تبديد مباشر لفرص المستقبل، ومن كان كبيراً وفاعلاً ذات يوم، أو تنسب إليه أدوار البطولة على المسرح السياسي، عليه ألا يركن إلى ذلك، لأن المتاحف تصلح لأشياء كثيرة غير الإقامة فيها . ومن كان صغيراً يحبو ويلثغ في السياسة، وجد مناخات تتيح له أن ينمو، وقد لا يحتاج إلى اعترافات رسمية بهذا النمو، لأنه يفرض حضوره على نحو ما .
إن أخطر ما يهدد التطور في أي مجتمع، هو زوال الظواهر، واستمرار نفوذها من خلال عادات ذهنية، وأساليب فقدت صلاحيتها، لأن هذا الاستمرار الوهمي، هو غنائي وأفقي، وغير قابل للصرف أو الترجمة الميدانية، أما مناسبات هذه الوقفة حول زوال الظواهر وبقاء صداها وظلالها، وربما نفوذها فهي عديدة، تشمل أديباً قرر إغلاق الباب والنوافذ، وسياسياً استراح عند اليقين الذي عاش في نعيمه، لكن على طريقة النعامة، وناشطاً لا يعترف بأن الأعاصير الكونية هدمت أكواخاً من طين وغمرت قلاعاً مهجورة بالغبار .
التعليقات