إبراهيم أحمد

لم يحدث قرار قضائي في تاريخ القضاء العراقي الحديث تأثيراً، وربما تفجيراً كما أحدثه قرار المحكمة الاتحادية العليا الخاص بتفسير المقصود بالكتلة النيابية الأكثر عدداً! فهو ما يتشبث به خصوم quot;العراقيةquot; لمنعها من تشكيل الحكومة، وإيقاف كل شيء بانتظار أن ينهوا صراعاتهم الخاصة ويشكلوا كتلتهم دون اكتراث لتفاقم الأزمة الحادة الطويلة الخانقة وما ستجره على العراق من تداعيات خطيرة، ومن المقلق أن ثمة بوادر دموية فظيعة لذلك على الأرض!

لم يكن قرار المحكمة يتعلق بمصير الصراع بين كتلتين أو كتل، بل كان يتعلق بمصير الديمقراطية في العراق، وهي لا تزال جنيناً! بينما القاضي مدحت المحمود ينطق بحكمه المكون من بضعة سطور كانت الديمقراطية ترتجف قلقة خائفة على مستقبلها في هذا البلد الذي من الواضح أنه حتى الآن لم يتلمس الطريق الصحيح إلى مستقبله!

بالطبع لا يمكن تحميل السيد مدحت المحمود وزملائه ثقل القرار كله، فهؤلاء القضاة المحترمون يحكمون أو يفسرون دستوراً لم يكتبوه، ولم يصدر عن إرادتهم الفقهية أو الوطنية، والقضاة والحكام كالموسيقيين يعزفون وفق النوتة التي أمامهم، ووفق قدرة الآلة الموسيقية التي تحت أناملهم!

ومن يطالع الدستور العراقي الحالي، ويتأمل ديباجته المغرقة طائفية، وضيق أفقه العام، وكلماته حمالة الأوجه، يستطيع أن يدرك أية وثيقة فجة ومتخلفة تتصدى لتنظيم الحياة الديمقراطية والمدنية في بلادنا! وينبغي أن تبدل وتصلح مع الشبكة الكهربائية تماما!

تتولى المحكمة الاتحادية العليا التوثق من دستورية القوانين وفض التنازع بين القوانين وهي لا غنى عنها مطلقاً لبناء الديمقراطية في أي بلد، شرط أن لا تتحول إلى أداة أو هراوة مقنعة بيد السلطة التنفيذية، أو بيد المتسلطين!

في العراق كان القضاء لعقود طويلة معطلاً رغم ما عرف به القاضي العراقي من ثقافة قانونية عميقة وواسعة ونزاهة وشجاعة، الأمر ظل أكبر من طاقته وموقعه، فالحكم بعد 14 تموز 1958 إما عسكري فردي مطلق، أو حزبي شمولي قمعي، بل صار في الحقبة التعيسة المديدة الأخيرة (القانون هو كل ما يكتبه ويوقع عليه صدام حسين).

لكن اليوم على القضاة أن يخرجوا من هذا الموروث الأليم كله، ويستعيدوا دورهم ومكانتهم وحصانتهم فيكونوا في جو نظيف يخلو من أية جاذبية سوى جاذبية النص القانوني والضمير!

إذا تفاءلنا ومضينا مع حسن النوايا، وافترضنا أن ما يجري اليوم هو مجرد خلاف دستوري ينبغي الدعوة إلى إشباع القضية القانونية نقاشاً للوصول بصددها إلى رأي صائب ينسجم مع روح القانون والعرف الديمقراطي.

نصت المادة 73 من الدستور العراقي لعام 2005 على:

أولاً: يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوماً ًمن انتخاب رئيس الجمهورية.

ثانياً: يتولى رئيس مجلس الوزراء المكلف تسمية أعضاء وزارته خلال مدة أقصاها ثلاثون يوماً من تاريخ التكليف.

عندما يعكف قاض أو فقيه على تفسير نص، فهو أما أن يأخذ بظاهره، أو عباراته المحددة، ويزيل ما قد يشوبها من غموض أو لبس ويبين فحواها ومعناها بوضوح ودقة أو يركن إلى روح النص، ومنطقه وسياقاته الجوهرية العميقة أو بها معاً مجتمعة، وهذا هو الأفضل، ولكن الأسوأ أن يجمد عند ظاهر النص، حتى لو كان معاكساً لجوهره، ولبه العادل، وما توخاه المشرع، بل يختلط عليه الأمر، فيفشل حتى في التعرف على ظاهره خاصة إذا تعلق بقضايا ومصطلحات حديثة بعض الشيء، ويبدو أن قضاة المحكمة الاتحادية أو معظمهم فسروا هذا النص حسب ظاهره الملتبس أصلاً فقالوا أن الكتلة النيابية الأكثر عدداً يمكن أن تتكون تحت قبة البرلمان أيضاً!

بينما التفسير الصحيح يشير بداهة إلى أن الكتلة الأكثر عدداً هي تلك التي يكونها صندوق الاقتراع، لأنه هو الأساس وقبة البرلمان تتلقى النتيجة! ومن يصنع النواب والكتل هي صناديق الاقتراع، وليس مقاعد البرلمان!

الكتلة تسمى انتخابية عند توجهها إلى صناديق الاقتراع، وتصير نيابية حال اجتيازها صناديق الانتخابات بنجاح، حيث يطرأ عليها تحول نوعي يغير طبيعتها تماماً فيحولها من مشروع أو رجاء انتخابي إلى منجزٍ نيابي جاهز للعمل! وإلا ما دور صندوق الاقتراع وهو الجبل الشاهق لا يجتازه المرشح إلا بشق الأنفس؟

أداء القسم وتخطى عتبة البرلمان شروط شكلية وليست جوهرية، ما هو جوهري هو إرادة الناخبين المثبتة بالأوراق المتجمعة في الصناديق، والممهورة بالصبغة البنفسجية التي تغنينا بها طويلاً! هذا ما تأخذ به كل الدول والمجتمعات الديمقراطية!

الأخذ بغير ذلك ليس فقط مخالفة لروح النص، وللأعراف الانتخابية المعمول بها منذ ديمقراطية أثينا القديمة، بل هو تجاهل تام لإرادة الناخبين، فهم حين توجهوا إلى صناديق الاقتراع كانت في أذهانهم وإرادتهم كتلهم كما أعلنتها المفوضية العليا للانتخابات، وليس تحالفاتها المجهولة اللاحقة، فهم ليس لديهم علم الغيب، وعلى أساسها مضوا في صراعهم الانتخابي السلمي المشروع، وتوصلوا لتلك النتائج وأي تحوير أو تلاعب بها هو انتهاك لإرادتهم! ويفتح الباب لأشكال المراوغة ونصب الشراك للناخبين الغافلين (للإيضاح: لا يعرف ناخب في القائمة (أ) أن صوته سيذهب للقائمة (ب)، عبر كتلة جديدة، بكل ما يحمل ذلك من مشاريع وتوجهات).

التحالفات اللاحقة هي غير الكتل المسجلة لدى المفوضية العليا للانتخابات، والمعلنة على الناس قبل الانتخابات، وهي مشروعة طبعاً ولكنها لا تغير الإرادة العامة للناخبين وتنحصر بالتوقعات المفهومة والواضحة لهم!

لذا فإن الفوز يعلن منذ اللحظة التي ينتهي فيها فرز الأصوات، وتعرضه بسرعة شاشات التلفاز في كل أنحاء العالم! حيث تشرع الكتلة الفائزة على الفور مشاوراتها لتشكيل الحكومة.

كان على المحكمة أن تدع المجال للبندين السابقين يأخذا مجراهما، حتى إذا لم تشكل الحكومة يأتي البند اللاحق من المادة نفسها:

ثالثاً: يكلف رئيس الجمهورية مرشحاً جديداً لرئاسة مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوماً عند إخفاق رئيس مجلس الوزراء المكلف في تشكيل الوزارة خلال المدة المنصوص عليها في البند ثانياً من هذه المادة إلخ..

دافعت quot;العراقيةquot; عن نفسها بالقول أن القضاء قد سيس، واستأنفت مستعينة بفلم محاولة إثبات نية المشرعين (هم أنفسهم خصومها اليوم)، لم تواصل منازلة قرار المحكمة قضائياً وعبر محامين كبار متمرسين في بغداد، أو تستعين بمحامين عالميين ضليعين بقضايا قوانين الانتخابات في دول برلمانية عريقة وممن يحق لهم الترافع أمام القضاء العراقي، ولكن حتى لو فعلت ذلك فانها سيبقى محكوماً عليها أنها ليست الفائزة، وإنها لن تشكل الحكومة! ما يجري اليوم من صراع هو أكبر من قدرة أية جهة قانونية على حسمه! فهو صراع مصير أخير، وجولة انتخابات أخيرة لهذا الشيء الذي يشبه الديمقراطية، وليس الديمقراطية نفسها!

وهذا الكائن الشبيه بالديمقراطية سيصير يتيماً حين يرحل آباؤه الأميركان من العراق، وفي العراق لا يوجد طبعاً ملجأ أيتام للديمقراطية وعشاقها!

لقد عجز العراقيون رجالاً ونساءً في أن يكونوا ديمقراطيين، وعجزوا عن تكوين تقاليد وأخلاق وأفكار وتربية وروح ديمقراطية، تكون جزءاً من مرجعية ديمقراطية صلبة ثابتة لا تتزعزع مهما تبدلت الظروف! أتيحت لهم فرصة تاريخية ذهبية للحياة الجديدة، لن تتكرر، فأضاعوها!

المتصارعون على السلطة بنهم الضواري يعرفون ذلك جيداًً !

من سيتسلم السلطة، ومن سيفقدها يعرف ذلك، لذا فالصراع يجري على حافة الهاوية!

المحكمة الاتحادية هي من نطق بالحكم، وهو تاريخي أكثر مما هو دستوري!