عادل الطريفي


بينما تستعد القوات الأميركية لسحب قطاعات كاملة من معداتها العسكرية من العراق، وصفت بالأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، كشفت الأنباء عن رسالة بعث بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى المرجع الديني الهام السيد علي السيستاني. الرسالة التي كشفت عن وجودها جريدة laquo;الشرق الأوسطraquo; (6 أغسطس /آب) الحالي، تزامنا مع مقالة لباربرا سلافن في مجلة الـlaquo;فورن بولسيraquo; لم يتم نفيها أو الإقرار بها رسميا، حيث تجنب الأميركيون وكذلك وكلاء السيستاني الخوض فيها، ولكن وبحسب ما نقلته سلافن عن مسؤول أميركي رفيع - لم تسمه - فإن أوباما ناشد المرجع، الذي يحظى باحترام وتقليد واسعين داخل وخارج العراق، حض القادة العراقيين على سرعة تشكيل الحكومة ونبذ الخلافات فيما يتعلق بتسمية رئيس الوزراء.

تبادل الرسائل بين الأميركيين والمرجع ليس جديدا، فالرئيس الأميركي الأسبق بوش الابن كان قد بعث برسالة للسيستاني (6 مارس /آذار 2006)، ولكن وبحسب الرواية الرسمية للمرجعية فإن السيستاني رفض ترجمتها إلى العربية احتجاجا على تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية للعراق. في الحقيقة كانت رسالة بوش قد تضمنت طلبا إلى المرجع بعدم دعم إعادة ترشيح رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري، ورغبة في عدم الظهور بمظهر المشارك في هذا الرأي المعارض للتمديد للجعفري، فإن السيستاني رفض الرسالة من دون أن يكون في الحقيقة رافضا لمضمونها.

هذه المرة اختار السيستاني أن لا يعلق وكلاؤه على موضوع الرسالة على الرغم من أن تسريب خبرها جاء عن طريق أقاربه في إيران - أو هكذا تناقلته الرواية الصحافية -. وفي الوقت ذاته فإن المرجع - وحتى الآن - لم يعتبر رسالة أوباما تدخلا في الشأن العراقي الداخلي.

لقد لعب السيستاني دورا مهما في تاريخ العراق بعد الغزو الأميركي. المرجع (الإيراني الأصل) الذي ظل مغيبا منذ رحيل الإمام الخوئي مطلع التسعينات استطاع أن يؤثر في القرارات المفصلية للعراق، فهو كان وراء تعديل الدستور وإجراء الانتخابات، وأهم من ذلك تهدئة الصدام الطائفي، بل إن السيستاني الذي كان يقال عنه إنه ضد ولاية الفقيه بالمفهوم الخميني، قد أثبت أن المرجعية الدينية بوسعها التأثير في الحياة السياسية والاجتماعية دون أن تتحول إلى الحكم بنفسها. لقد نال السيستاني احترام الأميركيين حينما أصدر فتوى مباشرة بعد الغزو تحذر رجال الدين من التعاطي في السياسة، وحضهم على التركيز على الجانب الأخلاقي والاجتماعي، ولكنه أكد أيضا في فتوى لاحقة مطالبه في تعديل الدستور وإقامة الانتخابات مما غير الصورة المأخوذة عنه كرجل دين منعزل. بيد أن السيستاني لم يكن ليتمكن من لعب هذا الدور دون التدخل العسكري الأميركي، وكما يروي علي علاوي في كتابه laquo;حرب العراق: ربح الحرب وخسارة السلام - 2007)، فإن السيستاني تفاوض طويلا عبر وكلائه ووسطاء محايدين مع الأميركيين والممثليات الدولية، وإن الأميركيين وقوات التحالف كان لهم دور في صد تهديدات laquo;القاعدةraquo; الإرهابية ضد المرجع، ولعل التهديد الأبرز كان في أكتوبر (تشرين الأول) 2003 حينما قام أتباع جيش المهدي الموالي للزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر باحتلال كربلاء واقتحام مرقد الإمام الحسين الذي يشرف عليه وكلاء السيستاني في ذكرى الإمام المهدي. حينها أعلن الصدر الحرب على المحتلين، وتأسيس حكومة بوزراء من عنده في تحد لسلطة الاحتلال ومجلس الحكم، ولولا تدخل قوات الحلفاء الذين حاصروا المدينة وحرروا موظفي مكاتب السيستاني لكانت المرجعية تحت وصاية الصدر بقوة السلاح.

أكيد أن السيستاني استحق موقعه الراهن بفضل موقعه الديني وحكمته في التعاطي مع شؤون العراق وبالذات مع سياسيي البلد وقوات التحالف، ولكن هذا التأثير ما كان له أن يتم لولا مساحة الحرية التي منحه إياها الأميركيون، ودون بيئة التعددية التي وفرها الغزو لربما ظل السيستاني أسير بيته. بعد الغزو كان بإمكان أي حزب أو فصيل أن يمارس وصايته على هذا الحكيم المسن، ولكن وجود الاحتلال كان يؤمن الحماية المعنوية والمادية بشكل غير مباشر للمرجعية ويمنحها حرية الحياد بين خلافات السياسيين العراقيين، ولعل السؤال المهم هنا: هل ستستمر المرجعية على الحياد بعد رحيل الأميركيين؟ أم تعمد إلى الانزواء في حال تهددتها الأحزاب الدينية بميليشياتها وسلطتها السياسية؟

في حوار أجرته laquo;الغارديانraquo; مؤخرا مع وزير خارجية العراق السابق طارق عزيز من سجنه (5 أغسطس) الحالي، قال عزيز إنه فقد الأمل في أوباما لأنه استمر في سياسة الإدارة السابقة. ولعل أبرز مفارقة وردت في الحوار هي مطالبته للرئيس الأميركي بأن laquo;لا يترك العراق ضحية للذئابraquo;، ناصحا الرئيس الأميركي بألا يباشر سحب قواته نهاية هذا الشهر كما هو متوقع. ربما يعكس نداء معتقل بعثي بعدم رحيل القوات الأميركية خوفه الشخصي على نفسه وعائلته من رموز النظام الجديد، ولكنه يكشف أيضا مقدار الخوف الذي بات يعتري قطاعات واسعة من العراقيين على مصير بلدهم بعد رحيل قوات الاحتلال.

في أحدث تقرير نشرته مجلة laquo;جينزسraquo; الدفاعية عن العراق (9 أغسطس) الحالي، فإن ضباطا أميركيين كبارا يشككون في قدرة الجيش العراقي الكاملة على فرض الأمن والسيطرة بعد رحيل القوات الأميركية، بل إن بعض الخبراء العسكريين تحدثوا بسرية تامة عن أن بعض أجهزة الأمن ووحدات الجيش العراقي فشلت في تسلم مواقع تماس طائفية، أو خاضعة لنفوذ عشائر وميليشيات طائفية. يضاف إلى ذلك أن حكومة المالكي استحدثت وحدات مسلحة تابعة مباشرة لرئيس الوزراء من خلال وجود ثغرات تشريعية، ولهذا فإن آلية صنع القرار العسكري ما تزال غير واضحة، والصلاحيات الأمنية موزعة بين وزارات وأجهزة متعددة، ولعل تصاعد وتجدد وتيرة أعمال العنف قد باتت تهدد النجاح النسبي الذي حققته حملة بوش العسكرية في 2007.

أمام هذه التحديات، فإن دور السيستاني في تحقيق توافق بين المالكي ومعارضيه أصبح حاجة ماسة، فسلسلة الاتهامات الحادة بين المالكي وعلاوي والمجلس الأعلى والصدريين قد بدأت في الخروج عن السيطرة. لقد قال المالكي صراحة في سلسلة حواراته على قناة laquo;العراقيةraquo; (الرسمية) إن قائمة علاوي تهدد حقوق المكون الشيعي، ووجه اتهامات للمجلس الأعلى بأنهم يريدون الوصاية على منصب رئاسة الوزراء بعد رحيل الأميركيين، وكان رد عادل عبد المهدي واضحا في حوار مع هذه الجريدة منتصف هذا الأسبوع، قائلا بأن استمرار المالكي على مواقفه فيه خطورة على مستقبل العراق السياسي.

لقد حقق السيستاني والأميركيون توازنا خاصا خلال السنوات السبع الماضية، لم ينجح كل الوقت ولكنه حقق قدرا أدنى من الاستقرار النسبي، ولكن وبعد رحيل الأميركيين فإن السيستاني قد يواجه ذئابا مترصدة لموقعه وتأثيره، وسيكون من المثير متابعة الطريقة التي سيسعى من خلالها للمحافظة على ذلك التأثير.