محمد بن علي المحمود

لقد رأينا في المقال السابق ، وخاصة في الشطر الأخير منه ، حجم الكارثة الإنسانية التي نعاني منها ؛ كما تجلّت في وجهة نظر شريحة عريضة من الجماهير ، أقصد وجهة نظرهم في الطغيان ؛ متمثلا في صورة صدام ؛ خاصة بعد حادثة الإعدام . لقد كان الإنسان غائبا ، وكان الانحياز إلى الطغيان واضحا ، إذ تكاد التعليقات تجمع على تبرئة صدام ، أو على الأقل ، على الغفران له ، بعد أن تعترف بشطر من جرائمه الكبرى التي لا تغتفر ؛ بأي معيار من معايير التسامح والغفران .

الوعي العربي لا يمارس تقييم حكامه وقادته على أساس إنساني واقعي ، ولا على أساس مساحات الحرية المرتبطة عضويا بالشأن الإنساني ، بل على أساس العنتريات الفارغة التي لم تحقق شيئا . ليس هذا تبريرا للمقصرين في الشأن الإنساني.

هذا التسامح مع الطغيان ، بل ومع أبشع صور انتهاك حقوق الإنسان ، يدل على عطب كبير في الضمير العربي / الإسلامي ، بل يقودنا إلى الشك في وجود هذا الضمير أصلا . هل يحق لنا إزاء كل ما حدث من مآسٍ على مر تاريخنا ، وما قيل إزاء ذلك وما يقال الآن أن نتساءل : هل استطاعت ثقافتنا من بداية تكونها أن تصنع ولو ضميرا صغيرا منحازا إلى الإنسان ؟ ، هل خرج هذا الضمير إلى الوجود ، أم أنه أجهض منذ بداية تخلّقه في خلاياه الأولى ؟ ، ماذا كانت تصنع ثقافتنا منذ أكثر من ألف عام ؟ ، هل كانت ثقافة تتوفر ولو على القليل من الإنساني ، أم أنها كانت بالكامل ثقافة طغاة وطغيان ، وتشريع لهؤلاء وأولئك؟

في اعتقادي ، أننا مهما اختلفنا حول الجزئيات الفرعية المتعلقة بهذه الأسئلة ، فإننا لا نستطيع تجاهل حقيقة واضحة ، وهي أن ثقافة الإنسان غائبة عن ثقافتنا ، ومن ثَمَّ ، عن وعينا . قد نختلف في سبب هذا الغياب . لكن ، لا أظننا سنختلف حول حقيقة هذا الغياب ؛ لأن شواهده واضحة للعيان . لا يستطيع أحد أن ينكر هذا الغياب . حتى مقولات التبرير للطغيان ، لا تستطيع أن تنكر حقيقة هذا الغياب ؛ لأن التبرير ذاته ، هو فعل على موجود ، وبحجم التبرير يكون حجم الوجود ، بل التبرير من حيث هو نوع من شرعنة الغياب ( = غياب ثافة الإنسان ) من أقوى الأدلة على حضور هذا الغياب .

هامشية الإنسان ، وكونه آخر ما نفكر فيه ، لم يحدث بين يوم وليلة . إنه لم يصبح ثقافة طاغية حاكمة للوعي العام ؛ إلا عبر تراكمات ضخمة في أزمنة متتالية ، كانت تعمل عملها على مستويات : الشعور واللاشعور الجمْعيين . واستمرت التراكمات تعزز كل ماسبق ؛ لأنه وللأسف ليست ثمة ثورة إنسانية حقيقية على المستوى الثقافي على امتداد تاريخنا الطويل . وما حدث هنا وهناك ، لم يكن إلا انتفاضات خافتة ، وأدتها في مهدها أمواج الثقافة الأقوى والأعتى ؛ فلم يبق منها إلا ذكريات تثير الشجون ، وتبعث الأسى إلى درجة الجنون .

إذا كان مثال صدام يعكس حالة الوعي العربي المأزوم ، عندما يقوم بانقلاب كامل على الإنسان ، أي عندما يقوم بنقل شخصية ما ، من خانة : (أكبر المجرمين) إلى خانة : (الأبطال والشهداء والصالحين) ؛ فإن ضمور الإنسان يحدث في المقارنات التي يقيمها الوعي العربي المأزوم بين حُكامه اليوم . فالحاكم المبجل والمعظم والبطل ..إلخ الألقاب الباذخة في هذا الوعي ، هو الحاكم الذي مارس أعلى درجات القهر والسحق ، وفتح أكبر المعتقلات وأباد بشتى السبل الوحشية أكبر عدد من الناس . بينما الحاكم الذي لم يفعل إلا القليل النادر من ذلك ، بل وربما فتح كثيرا من مجالات الحرية التي كانت مغلقة من قبله لعشرات السنين ، واهتم ولو قليلا بالإنسان ، يُدْرِجه الوعي المأزوم في خانة : الضعفاء ، بل وربما في خانة الخونة المجرمين .

الوعي العربي لا يمارس تقييم حكامه وقادته على أساس إنساني واقعي ، ولا على أساس مساحات الحرية المرتبطة عضويا بالشأن الإنساني ، بل على أساس العنتريات الفارغة التي لم تحقق شيئا . ليس هذا تبريرا للمقصرين في الشأن الإنساني ، أياً كان موقعهم ؛ عن طريق مقارنتهم بأشد الحكام سحقاً لكرامة الإنسان ، أي بأمثال عبدالناصر وصدام ، بل التقصير يشمل العالم العربي كله بلا استثناء . لكن هناك فرق كبير وجوهريّ ، بين دولة تقع فيها انتهاكات ، وتفشل أحيانا في تلافيها ، وقد تمارس القبضة الحديدية في ظرف استثنائي ما ، وبين دولة أخرى ، تقع مسألة انتهاك كرامة الإنسان في صلب استراتيجيتها ، بل تكون هيكلها العام على أساس القدرة على أداء هذه الوظيفة (= اضطهاد الإنسان ) . فرق كبير بين دولة تحاول حفظ كرامة الإنسان ولكنها لقصور ذاتي أو فشل أواضطرار لا تصل به إلى الحد الأدنى المقبول مرحليا ، وبين دولة أخرى ، تجد هويتها في عملية إلغاء كرامة الإنسان . هناك فرق كبير وجوهريّ بين دولة يقع فيها القمع ؛ كاستثناءات وتجاوزات ، وبين دولة هي مشروع قمع ؛ بحيث تجد أن كل مكوناتها متوجهة لسحق وإلغاء كرامة الإنسان . والمأساة تأتي هنا ، اي في سياق تلقي الظاهرة الطغيانية ؛ عندما تُوضَع كلتا الدولتين في سياق واحد من حيث الإدانة ؛ فضلا عن أن يتم شتم الأولى وامتداح الثانية ؛ لمجرد أن الثانية ترفع (شعار) حرق إسرائيل أو رميها في البحر ؛ بينما إسرائيل رغم جرائمها لم ترتكب منذ قيامها معشار ما ارتكبته دول الشعارات الجوفاء .

طبعا ، لا يجوز فهم هذا من أية زاوية تبريرية . فأي خطأ في حق أي إنسان لا يبرره إلا إصلاحه . لهذا ، فليست المقارنة تتغيا أي تبرير ، ولكنها في همها الأول والوحيد تُحاول البحث عن الإنسان في الوعي العربي / الإسلامي ، من خلال تمييز المواقف ، وذلك بالكشف عن كونها تمارس ازورارا واضحا عن التقييم من خلال الإنسان كمعيار .

وحتى لا نقع في حرج من أي نوع ؛ نأخذ ، مثالا على ذلك ، موقف هذا الوعي العربي المأزوم من حاكمين عربيين في دولتين متجاورتين ( = العراق والأردن ) ، وهما : الملك حسين وصدام . هل الوعي العربي يحترم الأول ويدين الثاني كما يجب إنسانياً ؟ ، أم أن الأمر هو بالعكس ؟ . كلنا يعرف ماذا فعل صدام بشعبه من مذابح ومقابر جماعية وإبادة بالأسلحة الكيماوية وتعذيب يفوق إبداع الخيال في أكبر المعتقلات وأشدها دموية ، هذا في حياته ؛ فضلا عن ما خلّف لهم بعد موته من تشوهات مزمنة تكاد تلغي وجود العراق بالكامل . قارن هذا ، بحال الملك حسين في الأردن . فهو على امتداد ما يقارب خمسة عقود ، صنع وطنا مستقرا رغم كل الظروف . الواقع يشهد ، كل من زار الأردن أو تتبع تاريخه السياسي والأمني ، يعرف أن حقوق الإنسان محفوظة إلى حد كبير (لا ندعي مقارنتها بالسويد أو هولندا أو المملكة المتحدة ، ولكن في السياق العربي علىالأقل ...) لا وجود لمذابح ولا لمقابر جماعية ولا لمعتقلات تعذيب تمتلك سمعة أسطورية. بل العكس هو الواقع ، كل من رأى الأردن عن قرب ، يشهد بأن الوضع الاجتماعي والمادي ومساحة الحريات متوفرة بحدود المعقول في السياق العربي ؛ رغم محدودية الموارد ، وأزمة الجغرافيا ؛ إلى درجة كان فيها العراقيون أبناء البلد النفطي المجاور ، يحلمون بالعيش في الأردن ولو كمهاجرين ، بدل أن يعيشوا في أمبراطورية الخوف الصدامية . بل حتى المعارضة الأردنية ، منذ أيام الملك حسين ، ورغم كل ما تقوله في شأن التضييق عليها ، لم يتم تهميشها ؛ فضلا عن سحقها . ولتدرك الأمر بصورة أوضح ، تخيّل لو أن هذه المعارضة ، وعلى الصورة التي هي عليه أيام الملك حسين ، كانت في مصر عبدالناصر أو في عراق صدام حسين . ماذا كان سيجري لها ؟ . إذا تخيلت ذلك ، فستدرك الفرق الكبير الذي يجعل مجرد المقارنة ضربا من الخيال ، بل من الخيال اللامعقول .

ومع كل هذا الوضع الإيجابي نسبيا في الأردن ، فالوعي العربي لم ير الملك حسين بطلًا ولا شهيداً (ولا نطالبه بذلك) ولكنه وهنا المعضلة الإنسانية التي تتبدى من خلال المقارنة رأى أن صدام بطل الأبطال وشهيد الشهداء . العربي للأسف يحترم صدام ؛ لا لشيء إلا لأنه رفع الشعارات الجوفاء ، ولأنه عاند العالم الغربي بغباء كبير بحجم دمار العراق . بينما الملك حسين لم يعلن أنه سيحرق نصف إسرائيل ، ولم يرتكب من الحماقات ما يجعل بلده في مهب الريح ، بل قام ببنائه من الفتات ، وتعامل مع الشعب كشعب ، وليس كمادة للسحق والإذلال .

هنا لابد أن يبرز السؤال الأصعب ، والأشد إيلاما : هل العربي لا يحب إلا من يهينه ، هل هو لا يحترم إلا من يقمعه ، وكلما زادت درجة القمع زاد مستوى الاحترام ؟ هل العربي يستهين بمن يكرمه ، ويستضعف من يلين له ، هل المعيار لدى العربي هو إنساني ؛ ولكن بالمقلوب ، أي بكل ما يضاد بل وينفي الإنسان ؟!

أقبل من ينتقد الملك حسين مثلا ، فلكلّ رجل تاريخه الذي لا يخلو من أخطاء ، ووجهات النظر لا تتفق حول أحد . لكن ، أن يكون هذا الناقد في الوقت نفسه الذي يُدين فيه مثل الملك حسين متسامحا جدا مع مثل صدام ، إلى درجة أن يكون مبررا لكل أخطائه ، بل وربما يعده بطلا ورجل إنجازات ! ، فهذا ما لا يمكن قبوله ؛ لأن معنى هذا أن ينتفي الإنسان كمعيار . وهذا ما يقلقني ، وليس مسألة توزيع النقد أو الهجاء ، أو تحديد المواقف من الأشخاص .

انظر الآن إلى حال مصر ، فرغم كل شيء ( وضع تحت كلمة quot; شيء quot; ما تشاء ) ، لا أحد ينكر مساحات الحرية المتاحة ، ولا التطورات الإيجابية في مستويات المعيشة ، ولا الاستقرار الذي يتأبى على كثير من الاستفزازات الإقليمية التي يقوم بها الحمقى والمغفلون . ومرة أخرى ، أتقبل وأتفهم ما تمارسه كثير من الشخصيات المعارضة والأحزاب من نقد ، بل ومن هجوم ، بل ومن هجاء ؛ شرط أن يكون ممن يطمح إلى إرساء قيم الحرية وكرامة الإنسان . لكن ، أن يتم ذلك بواسطة من يترحمون على أيام عبدالناصر ، ويرونه بطلًا ومحرراً ، أن يكون ذلك ممن يشتمون واقعهم ويشيدون بالزمن الناصري ، زمن المعتقلات والهزائم وسحق الإنسان وضياع الأوطان بالحماقات ، فهذا ما لا يمكن فهمه ولا تفهمه أبدا ؛ إلا بالإحالة إلى منجز وحيد ، هو منجز الطغيان .

إبان الهجوم الإسرائيلي على لبنان قبل أربع سنوات ، كنتُ في مصر طوال فترة الهجوم . وقد رأيت بنفسي كيف شنت الصحف المعارضة والقومية هجوما على القيادة المصرية وتهكمت بمواقفها ، بل وشتمت أعلى سلطة في الهرم السياسي ، وكان ذلك على الصفحات الأولى من صحف مشهورة ، صحف تباع في الشوارع علانية . وكل ذلك لأن مصر لم تنجرّ إلى حماقات الحزب الإيراني في لبنان . أيضا ، النقابات والأندية الخاصة والعامة ، تمارس نقدها بحرية ، وتُسمع صوتها بأعلى درجة ، دون أن تصادر أو تحجب . بل إن الحياة العامة ، والتي هي مؤشر لمستوى نبض الحريات ، تزخر بالنقد وطرح الآراء السياسية دون خوف أو وجل . هذا ما تلمسه حقيقة في الواقع المصري . قد يقول بعضهم ، هذا المستوى من الحرية هو حق ، لا مِنَّة لأحد فيه . هذا صحيح . لكن ، من يتمتع بهذه الحرية المتاحة ( وهي حرية واسعة بمعيار السياق العربي ) ، لا يكتفي بشتم واقعه السياسي ، وإنما يمارس تقديس الزمن الناصري ،( وبعضهم أقام المآتم صدام ! )، أو على الأقل يسكت عن فظائع ذلك الزمن الذي كانت فيه كلمة واحدة ، وربما غير مقصودة ، تقود صاحبها إلى غياهب المعتقلات ، حيث يتم هناك ارتكاب أبشع صور التعذيب ، وأقصى درجات سحق الإنسان .

بمعيار عروبي ، وبحساب بلغة الأرقام ، نقول للعروبيين : من الذي قتل عددا أكبر من العرب ، ومن الذي اعتقل وعذب أكثر وبصورة أشد ؛ طغاة العرب ( = عبد الناصر / صدام مثلا ) أم إسرائيل ، تلك الدولة التي كانا يزعمان معاداتها ، ويبرران وجدهما بها ؟! . المقارنة مُفجعة . لكن ، دع إسرائيل ، وقارن الداخل العربي . وهنا نعود ؛ فنكرر الأسئلة الملحة ، وأهمها : لماذا لا يكون الإنسان معيارا ؛ فيتم تقييم الحُكام والدول بمعايير إنسانية ، تمارس التقييم على أساس ما يجري داخل حدود الدول وضمن مناطق نفوذ قادتها ، وليس على أساس مواقف شعاراتية من قضايا عامة ؟ فكل حاكم ، هو مسؤول مسؤولية إنسانية وحقوقية عن وضعية مواطنيه أصلا ، وليس عن مسير هذه القضية أوتلك ؛ مما هو خارج دائرة نفوذه . لماذا لا يتم الالتفات إلى ما تحقق فعلا على أرض الواقع ، ولو كان متواضعا ؛ فتحاسب منظومة الثقافة والفن والإعلام (= الضمير الجمعي ) كل المقصرين ، وليس إلى الوعود القومية العريضة ، التي يتم التبجح بها من قبل صانعي الانتصارات في الهواء ، والذين يتبرعون بالوعود القومية الكبرى ؛ في الوقت الذي يجد فيه المواطن نفسه قابضا على الريح ، بل يجد نفسه بلا وطن ، حتى داخل الوطن ، بل وربما وجد نفسه مسحوقاً باسم (الوطن العربي الكبير !) ؟ .