خلف الحربي

كان غازي القصيبي رجل دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى, وكان في الوقت ذاته أديباً ملء السمع والبصر, وصحافياً لم يتوقف عن الكتابة المشاغبة في الجرائد والمجلات حتى آخر سنوات حياته, لكنه رغم كل ذلك كان إنساناً بسيطاً لم تمنعه مشاغله الكثيرة ومهماته المتشعبة من أن يفتح قلبه وأبوابه لكل الناس الذين كانوا ينادونه باسمه الأول: 'يا غازي'... لم يكُن أي مواطن سعودي يرى حاجة ما إلى أن يناديه بألقاب من نوع 'يا معالي الوزير' أو 'يا دكتور' أو حتى 'يا أبا سهيل'، لشعور الجميع أن هذا الرجل هو غازي القصيبي الذي يعرفونه حق المعرفة، حتى لو لم يكونوا قد التقوا به في يوم من الأيام، وليس ثمة أي داعٍ إلى افتعال كلفة غير موجودة في الأساس.

لقد اشتُهر القصيبي ابن العائلة التجارية العريقة، بطاقته الجبارة في العمل ونزعته الدائمة لإحداث الفرق في كل المناصب التي تقلدها، سواء حين كان أستاذاً جامعياً أو مديراً للسكك الحديد أو وزيراً للصناعة والكهرباء أو وزيراً للصحة أو سفيراً في البحرين وبريطانيا أو وزيراً للمياه ثم وزيراً للعمل, وهو رغم انغماسه الكبير في مسؤوليات هذه المناصب، لم يتردد في قبول كل المهمات الجانبية التي يتم تكليفه بها، كأن يكون مبعوثاً في مهمة خاصة أو مفاوضاً في موضوع شائك أو عضواً في لجنة استشارية.

ولأن القصيبي يؤمن بأن الحياة تعني المزيد من العمل، فإنه لم يتوقف يوماً من الأيام عن تأليف الكتب حتى وصل عدد الكتب التي ألَّفها ما يقارب الـ60 كتاباً, ولم يمنعه كل ذلك من الكتابة الصحافية أو الدخول في مساجلات كتابية مع الآخرين, ولو تأملنا جيداً في عطاءاته خلال خمسة عقود، لوجدنا أنه أكثر من ينطبق عليه قول المتنبي:

وإذا كانت النفوس كباراً

تعبت في مرادها الأجسام

مع الأخذ بعين الاعتبار أن القصيبي الذي يعشق المتنبي حد الجنون، طبَّق نظريته بصورة معاكسة، إذ قاوم الواقع الصعب بالتفاؤل والعمل الذي لا يتوقف، وطارد الطموحات البعيدة بخطوات لا تعرف اليأس.

ولا يستطيع أشد الناس خصومة للقصيبي، أن ينكر أنه كان رجلاً نظيف اليد يمتلئ قلبه بحب الوطن, إذ كان يقبل دائماً المناصب التي يهرب منها الجميع، فيتصدى للمهمة المعقدة بكل شجاعة ثم يستوعب بسهولة تذمر الناس ومناكفات وسائل الإعلام، رغم أنه في غنى عن كل ذلك, ثم لا يمر عام أو عامان حتى يلحظ الجميع الفارق الذي أحدثه هذا الفتى الإحسائي المثير للجدل!

رحم الله القصيبي... فقد ترك بصمته الواضحة في مسيرة التنمية منذ بداياتها الصعبة, وكان واحداً من الأسماء المؤثرة في الحركة الثقافية السعودية, وكان منحازاً دائماً إلى الحرية والتنوير, وسيبقى نموذجاً يلهم الأجيال بأن الصعوبات الكبيرة يمكن تخطيها بالعمل الدؤوب والتفاؤل والثقة بالنفس.