مهنا الحبيل
الكشف عن الرسالة السرية للرئيس أوباما الموجهة للسيد علي السيستاني تكشف عن مسار دقيق للغاية تواجهه العملية السياسية التي باشرها الاحتلال في العراق في نُسخ عدة لم تستطع أن تصمد فيه حتى من خلال مواءمة ذات التشكيل الذي أُصطحب مبكراً في الشراكة الأمريكية الإيرانية ليؤسس قاعدة المشروع السياسي، والرسالة في ذاتها تحمل دلالة مهمة تستدعي التاريخ الأول الذي شكّلت فيه لقاءات بول بريمر ومندوبيه العراقيين والأمريكيين مع السيد السيستاني برنامج التيسير لإجراءات العملية السياسية وخاصة في أنموذجها الانشطاري الطائفي الذي قاد إلى كوارث خطيرة ضربت لحمة الشعب العراقي ونظامه الاجتماعي المركزي لمؤسسته الديمغرافية، فعودة الرئيس أوباما لاستخدام الاتصال عبر الحالة الطائفية المغلقة التي اتّبعها بريمر تشير إلى الفشل الذريع الذي يحيط بهذه العملية هذا من جانب ومن جانب آخر تدلل فحوى الرسالة في الطلب من السيد السيستاني التوجيه الضمني للطرف الطائفي المؤيد لإيران أن يتوحّد على موقف مع أو ضد المالكي إلى أزمة معقدة للغاية تواجه المشهد السياسي للاحتلال.
فهذه الرسالة تحمل ضمناً إشكالية أمريكية لانشطار القوى الموالية لإيران في العراق وهو ما ذكرناه في أكثر من مناسبة بأن هذه القوى لا تزال مادة المشاركة الرئيسة للمصالح العليا لأقطاب الاحتلال دولياً وإقليمياً وهي مفارقة عجيبة لكن مدارات الأحداث تعود لتوثيقها، ومن المؤكد أنّ بعض هذه القوى تمردت نسبياً على القرار المركزي الإيراني وإن كانت طهران لاتزال تُمسك بخيوط اللعبة، غير أنّ واشنطن أيضاً لم تستطع أن توائم بين تشكيلات الفرقاء في قوى الولاء لإيران بينهم وبين تشكيلاتهم وبينهم وبين القوى الأخرى التي يعطي الانطباع قربها من الحالة الإقليمية العربية والدولية، ورسالة الرئيس أوباما للعودة للجوء الطائفي المرجعي في ظل انهيار أكبر تمر به قواته في أفغانستان والعراق يُعطي انطباعاً بحجم الفوضى التي يعيشها مشروع الاحتلال وإن لم يُسلّم بالهزيمة ولم تُؤمَن مخططاته لدفع العراق إلى مشهد جديد يؤدي إلى حالة احتراب دموية تعيق القوى الوطنية المتحدة مع المقاومة لملء هذا الفراغ.
في ذات الوقت أثبتت المتابعات الإحصائية عودة قوية لبرنامج المقاومة العراقية وفصائلها الرئيسة وأعطت قراءات لحجم الاستنزاف المكثّف لقوات الاحتلال في مواقعه ودورياته العسكرية تزامن ذلك مع تزايد الشكوك في أنّ حجم الاعتداءات الضخمة على المدنيين يرتبط بهذا الطرف الإقليمي أو الدولي الذي يخشى انحصار البعد العسكري في يد المقاومة المشروعة، فمن المستغرب أن تُعلن كل الأطراف عن ضعف القاعدة الاستراتيجي ثم تعود لتضرب الجسم المدني بهذه القوة إلاّ أن يكون التفسير أنّ هناك قواعد وليست قاعدة واحدة تتشكل منها مجاميع مخترقة تختلف عن الجماعة الأصلية وإن رفعت ذات الشعار، هذا الانحدار في سجل الأمن الأمريكي وعمليته السياسية يُعزز وبصورة مكثفة مسؤولية المباشرة بوضع التصور الاستراتيجي للمشروع الوطني للعراق بعد التحرير وتركيز قوته الأصلية التي أعطت الأحداث صورة جلية عنها حتى يُغطّي هذا المشروع ما تترتب عليه الأحداث والتطورات بما فيها إعادة انتشار القوات الأمريكية التي أعلن أوباما أنها ستنهي مهمتها القتالية في نهاية أغسطس الجاري وهو أمرٌ مشكوك فيه والمرجّح أن يبقى هذا الإعلان سياسياً دون برنامج تنفيذي على الأرض حتى مع بث صور انسحاب فهو لا يمكن أن يوثق به مطلقاً.
في مسارات قوى التحرر الوطني تنعقد عدة عوامل لتدفع تلقائياً وعبر ساحة الكفاح ضد المستعمر من جهة وساحة النضال في سبيل الوحدة وتاريخ القوة الوطنية المركزية لتُشكّل جميعاً ذلك التصدّر الذي يترتب في سلّم الحراك الوطني وليس من الضرورة أن تبرز حالة التعبير عن الصدارة الشعبية أو الجماهيرية لهذه الجهة الوطنية في ذات التوقيت الزمني خاصةً حين يكون حجم الصراع من قوى الهيمنة عنيفاً ومتعدداً وحين تكون هذه القوة تحمل في ذاتها أصالة مستقلة عن تقاطعات إمبراطوريات الصراع وأجنحتها الإقليمية ثم يتعزّز هذا العزل لقوة البعد الأيدلوجي المستقل الذي تعتمره هذه الحركة الوطنية كمخزون تاريخي يلتقي مباشرة ضمير الشعب القُطْري والأمّة الجمعية، وهو ضميرٌ مُتقّد كان يبحث عن هوية الخلاص والتحرر قديماً على مستوى الأمة باشتراط عنصرين رئيسين العدالة السياسية والحقوق الإنسانية والمنهج الدستوري التاريخي وهو الإسلام ووعائه العروبي كقالب تاريخي وحدوي وحيوي لا قومية عنصرية تعزل الأعاجم أو تحاصر خطابها عبر شوفينية تترتب عليها صناعة عقيدة تنحرف عن بعد العروبة المتوازن ثم تنخرط في صراعات فئوية تتخذ من الشعار القومي برنامج حرب لتصفيات داخلية لا يستقّر فيها القُطر ولا يلتئم مع الأمّة، ولصناعة ثقافة تحمي هذا التطرف والإرث الدموي تتجه ثقافة الإعلام الانشطاري القائم على تصفية الشريك الوطني المقاوم أو المناضل عبر خطاب تولّه يُقدّس القيادة ويرفض النقد والشراكة ويشترط الإرث السياسي السلطوي حتى ولو كان في صفوفه مناضلون أحرار أدموا العدو إلاّ أنّ استثمار تضحياتهم للتقديس الذاتي للقيادات الرافضة للنقد يُحوّل الأمر إلى كارثة وقد تنفطر الأمور قبل تمام العقد الوطني.
- آخر تحديث :
التعليقات