محمد جابر الأنصاري
الديمقراطية أبعد النظم السياسية عن العنف، ولكن عندما تخرج أقلية ضئيلة على العملية الديمقراطية، كما حدث مؤخراً في بانكوك أو في البحرين، فإن الجهات المسؤولة لابد أن تتحرك لضبط الأوضاع . وعندما يدرس المرء تاريخ بعض البدايات الديمقراطية، يجد أن القوى الديمقراطية الصاعدة لجأت بدايةً إلى العنف لإزاحة القوى اللاديمقراطية .
لا يسير قطار التاريخ بالسلاسة والنعومة التي يريدها المثاليون والإنسانيون والطوبائيون، ابتداءً من أفلاطون! في تاريخ كل أمة ثمة عنف ما، بما في ذلك تاريخ العرب والمسلمين .
يمكن، لحسن الحظ، الاستفادة العاقلة من دروس التاريخ وعبره . قلنا ldquo;العاقلةrdquo; . . . أما ldquo;غير العاقلةrdquo;، والتي مردها إلى الغرائز البشرية العمياء المغروسة، للأسف، في بني آدم، وكذلك المصالح المتناقضة فليعالجها من يود معالجتها . والتراث الإنساني في الفلسفة والتحضر والتربية وعلم النفس وعلم السياسة . . . الخ، حافل بمثل هذه المحاولات النبيلة والمشكورة . . . إن أجدت . وهي مجدية، بلا ريب، إن ارتبطت بالإنصاف والعدل . فالعدل أساس الملك . والمقاربات العقلانية السائدة اليوم في أوروبا تعطي أملاً، بأن البشرية يمكن أن تحل إشكالاتها من دون عنف، فالعلاقات بين الدول، كما بين دول أوروبا، أصبحت أقرب اليوم إلى المقاربات العقلانية . ولكن قبل الحربين العالميتين وفي نهاية القرن التاسع عشر شاع في أوروبا شعور وانطباع ldquo;متفائلrdquo; واهم بأن الإنسانية (الأوروبية بالطبع!) قد بلغت سن الرشد العقلي المتجاوز للعنف .
ثم جاءت الحربان العالميتان وكانتا بين الرأسماليات الأوروبية ومن أجل ldquo;الأسواقrdquo;، وتكشّف الإنسان الأوروبي العقلاني ldquo;المتقدمrdquo; عن وحش كاسر . . . وأخذ يدمر بأحدث وسائل التدمير الحديث ما بناه هو وأسلافه في أوروبا والعالم من مدن ومكتبات وجسور . . . الخ، وأصبحت الصورة السائدة في أوروبا، وفي آسيا كذلك، صورة ldquo;الخنادقrdquo; المتقاتلة وrdquo;جنودهاrdquo; الجوعى المدفوع بهم إلى ساحات القتال . وأسهم الطيران ldquo;الحديثrdquo; في تدمير المدن الآهلة بالسكان على رؤوس المدنيين، سواء في لندن في بدايات الحرب الثانية أو في دريسدن الألمانية في نهايتها .
عندما زرت ldquo;متحفrdquo; الضربة النووية لهيروشيما اليابانية، قبل سنوات ورأيت تأثير الإشعاع النووي الضار على الخيول البريئة والبعيدة بعداً شاسعاً عن مكان الانفجار، ناهيك بالبشر وما حل بهم وبذريتهم، تملكني غضب شديد، أنا الذي أرى تأثير الضربة بعد سنوات طويلة (وبالمناسبة فاليابان كانت تنتظر ldquo;شروط الاستسلامrdquo; قبل شهور من قرار الرئيس ldquo;ترومانrdquo; ضربها بالقنبلة)، الذي يبدو ثأراً لبيرل هاربر التي يقال والعهدة على الراوي، أن تشرشل شجع وقوعها لجر أمريكا إلى صفه ضد ألمانيا وحليفتها الشرقية اليابان .
والتفتّ إلى مرافقي الياباني، بعد انتهاء الجولة، أسأله: ماذا ستفعلون؟! ابتسم الابتسامة اليابانية المهذبة الغامضة . . . ولم يجب!
غير أن هذا ldquo;الصمت المهذبrdquo; غير مستمر اليوم في الشرق الأقصى . فضجيج ldquo;سباق التسلحrdquo; الكثيف بين دوله، منذ أمد، مازال جارياً . . . ومنه قرار تايوان، الجزيرة الصينية المنفصلة، الحصول على صفقة أسلحة أمريكية بالمليارات خلال أزمة مالية عالمية مست الجميع، ويسعى كل من لديه سلاح نافع لتحويله إلى مال لتمويل مؤسساته المهددة! الأمر الذي دفع إلى ldquo;توترrdquo; العلاقات بين القوتين الأعظم في أيامنا وهما: الصين والولايات المتحدة . ولا تخفي اليابان والهند مخاوفهما من هذا ldquo;الصعود الصينيrdquo; الذي لا تُعلم عواقبه . . . ويترقّب العالم مناوراته العسكرية في ldquo;البحر الأصفرrdquo; الذي تتنازع جزره عدة دول آسيوية .
وللتاريخ، فإن القوات اليابانية، عندما احتلت كوريا، وأجزاء من الصين في فورة الصعود ldquo;الفاشيrdquo; الياباني في حينه، أعطت المراقبين انطباعين متناقضين: الأول تحضرها، والثاني وحشيتها! . . . أي أن ldquo;التحضرrdquo; لم يحجب ldquo;التوحشrdquo;!
تأمل المفكر الألماني ldquo;شبنغلرrdquo; أوضاع عالمه مع اقتراب نهاية الحرب الأولى عام 1917 وأصدر كتابه المشهور ldquo;انحطاط الغربrdquo; (The Decline of the West) الذي ترجم إلى الانجليزية عام ،1928 أي بعد عقد من انتهاء الحرب العظمى الأولى، وقبل عقد، تقريباً، من اندلاع الحرب العظمى الثانية، ldquo;فكل حرب تلد أخرىrdquo;، كما قيل عندنا، بعد حروب متقاربة تحتم على جيل واحد، هو جيلنا، أن يعيشها هنا في الخليج، أما على امتداد المنطقة العربية فالحروب أكثر من أن تحصى . وقد قال الرئيس المصري السابق، أنور السادات، إن ldquo;حرب أكتوبر ستكون آخر الحروبrdquo; . . . فهل ثمة ما يؤكّد ذلك؟
ثمة ldquo;تصورrdquo; لدى بعض المثقفين العرب (وأخشى أنهم من النخب التي تنظر إلى الواقع بمنظار ملطّف)، وتأمل بمجانية نجاح المشروع الوطني الجامع، وهو مشروع مغيّب اليوم في الساحة، ما لم تنبت له أسنان سياسية وينزل إلى الواقع .
مضمون تصورها باختصار: طالما أن أمماً كثيرة مرت بالصراع والنزاع في تطورها، ومن أجل وصولها إلى المفهوم الوطني والديمقراطي المُجْمع عليه، فلماذا يجب أن يكرر العرب ldquo;الحماقاتrdquo; ذاتها من أجل ذلك؟! ألا ينظرون في هذه التجارب ويتعظون بها من دون إراقة دماء؟
وأخشى أن هذا الطرح متأتٍ عن قياس عقلي فاسد لا ينطبق على الواقع البشري وطبيعة المجتمعات والأفراد .
لماذا ينبغي مثلاً - أن يحرق الطفل أصابعه في النار ليعرف ضررها، وقد أحرق غيره ممن يكبرونه أصابعهم في النار ذاتها، ولماذا لابد أن يتعلم الزوجان أصول المعايشة بينهما طالما أن أزواجاً آخرين قد سبقوهما، وrdquo;تعلمواrdquo; إيجاباً وسلباً . . . الخ؟ ولماذا يجب أن يطير الطيار، تحت التدريب، بين السحب، وفي العواصف، ليتعلم الطيران، بينما سبقه آخرون؟
هذه ldquo;الحالاتrdquo; كلها لا تدعم ذلك التصور المثالي الطيّب لدى بعض النخب الثقافية العربية التي أدمنت قراءة الكتب دون التفات إلى الواقع؟ هل قرأت أقلها كتب التاريخ واستوعبت واقعه؟!
في عالمنا الإسلامي والعربي اليوم، ثمة ldquo;اجتهاداتrdquo; متعاكسة لكيفية اجتياز الأزمات الراهنة، فهل يمكن أن يتم ذلك بلا صراع أو خلاف؟ نرجو ذلك .
والمواجهة بين ldquo;الإسلاميينrdquo; وrdquo;العلمانيينrdquo; في تركيا العائدة إلى محيطها التاريخي . . . والمنجذبة من ناحية أخرى إلى فكرة الانضمام للنادي الأوروبي، والتجاذب الدائر بين المحافظين والإصلاحيين داخل إيران، وطموحها النووي . . . السياسي في جوهره، بينها وبين القوى الغربية .
والحرب الطاحنة الدائرة في أفغانستان وباكستان واحتمالات العنف، التي تزرع المخاوف هنا وهناك والتعنت ldquo;الإسرائيليrdquo; حيال الحقوق الفلسطينية ldquo;المتبقيةrdquo; . هل هذا كله سيصل إلى نهاية سعيدة؟ نرجو ذلك!
أياً كانت الاحتمالات، فلابد من العودة إلى ldquo;المشروع الوطني الجامعrdquo; جسراً للإنقاذ، وذلك ما سنتناوله في المقالة المقبلة، إن شاء الله .
التعليقات