أحمد يوسف أحمد

كنت قد كتبت بمناسبة المبادرة التي تقدم بها الرئيس اليمني في الخطاب الذي ألقاه في عيد الوحدة في الشهر الماضي متفائلاً بأن هذه المبادرة يمكن أن تمثل بداية جديدة للوحدة اليمنية، وتمنيت على القوى السياسية المعارضة في الشمال أن تعطي فرصة لتلك المبادرة ولو من باب إبراء الذمة وتقوية الحجة، بمعنى أنها إن اكتشفت أن فيها من المناورة أكثر مما فيها من المبادرة فسوف تكون أقوى منطقاً عندما تواصل نهجها المخالف لسياسات النظام القائم، غير أنه يبدو أنني كنت غير مدرك لعمق فجوة الثقة بين أطراف الصراع في اليمن، وهكذا سرعان ما أضحت المبادرة نسياً منسيّاً، وسارت الأمور سيرها المعتاد الذي يشير للأسف إلى استمرار تفاقم الأوضاع الداخلية.

ليس أدل على ذلك من متابعة quot;يوميات العنف في اليمنquot; في الأسبوع الأخير كمجرد عينة، والتي تشير إلى أنه -أي العنف- قد بات ظاهرة يومية، مع غياب أي مؤشر من قبل النظام الحاكم يشير إلى الإحساس بحدوث تغيير ملموس في وتيرة تدهور الأوضاع، ومن ثم بإلحاح الحاجة إلى سياسات جديدة. ففي التاسع عشر من هذا الشهر استيقظ سكان حي التواهي في عدن على أصوات هجوم قام به مسلحون يعتقد بانتمائهم إلى تنظيم quot;القاعدةquot; على مبنى جهاز الأمن السياسي في عدن لتحرير عدد من الموقوفين من التنظيم، وأسفر الهجوم عن مقتل 11 شخصاً من الجنود والضباط والموظفين، وجرح تسعة آخرين، وقدر عدد المهاجمين بثمانية من المرجح أنهم تمكنوا من الفرار وإطلاق سراح بعض الموقوفين. والحادث خطير بكل المقاييس، فهو الأول من نوعه في مدينة عدن التي كان يستشهد باستقرارها على ضآلة التهديد الذي يتعرض له اليمن، وهو يطول رمزاً لاشك في محوريته بالنسبة لنظام الحكم هو جهاز الأمن السياسي الذي يفترض فيه أنه هو الذي يضع خطط التحسب لمواجهة هذا النوع من الأعمال، فإذا به يصبح ضحية سهلة لها، كما أن الهجوم كشف عن تخطيط لافت.





وفي اليوم التالي (20 يونيو) قتل ضابطان في الجيش اليمني في كمين نصبه مسلحون تابعون لـquot;الحراك الجنوبيquot; في محافظة الضالع، كما قتل اثنان من المهاجمين وأصيب ثالث، ويلاحظ أن هذا الهجوم قد وقع أثناء وجود لجنة رئاسية في الضالع كانت تحاول لعدة أيام إنهاء حال التوتر في المدينة جراء أعمال quot;التخريب والاعتداءاتquot; من قبل العناصر المعارضة، أي أن الحادث ليس منفرداً، وإنما هو إفراز لمناخ عام.

وفي الثالث والعشرين من الشهر نفسه قتل ثلاثة جنود، وأصيب عدد آخر بجروح في مواجهات اتضح أنها مستمرة طيلة يومين في منطقة جحاف بمحافظة الضالع مع مسلحين من quot;الحراك الجنوبيquot;، وتضمنت هذه المواجهات محاولة لاغتيال مدير استخبارات أحد الألوية المدرعة الموجودة بالضالع أدت إلى مقتل مرافقه، وجرح مرافق ثانٍ، كما تضمنت محاصرة موقع للجيش، وتدمير دبابة وآلية عسكرية وصهريج نفط، كما ذكر شهود عيان أن المسلحين أعاقوا وصول إمدادات إلى الموقع المحاصر. وفي الخامس والعشرين نفذت وحدات عسكرية متخصصة في مكافحة الإرهاب حملة دهم لمنازل في عدن، حيث اعتقلت ستة أشخاص يشتبه في انتمائهم لتنظيم quot;القاعدةquot;، واشتبكت مع سكان كانوا يحتجون على هذه العملية، وهذه الواقعة بالتحديد بالإضافة إلى عدد من الصور واللقطات لتحركات شعبية متنوعة قد تشير إلى تزايد التأييد الشعبي لـquot;الحراك الجنوبيquot;، وهو أمر ذو دلالة خطيرة بالنسبة لمستقبل الوحدة اليمنية.

وهكذا إذن ليس من المبالغة في شيء أن يقال إن ثمة quot;حرباًquot; تجري وقائعها يوميّاً على أرض اليمن، وبالذات في جنوبه، خاصة إذا أضفنا إلى ما سبق ما وقع قبل ذلك من هجمات على منشآت نفطية ومحطات للكهرباء وغير ذلك من المرافق الحيوية. وقد يقال إن وتيرة العنف ما تزال منخفضة، وهو أمر موضع شك، بالإضافة إلى أن الأمور لا يحكم عليها في ذاتها، وإنما من خلال مقارنتها بالأوضاع السابقة عليها. وثمة ملاحظات واجبة على هذا الوضع الخطير:

أولى هذه الملاحظات أن ما يحدث في اليمن الآن يؤكد ما سبق أن نبه إليه الكثيرون من أن خطورة الوضع في اليمن تنبع أساساً من أنه يواجه في آن واحد ثلاثة مصادر لتهديد أمنه واستقراره إن لم يكن وحدته هي تنظيم quot;القاعدةquot; وحركة الحوثيين وquot;الحراك الجنوبيquot;، وليس ثمة مؤشر يفيد حدوث تقدم جوهري سياسي أو عسكري في التعامل مع أي من هذه المصادر الثلاثة، وبالتالي فإن الخطر مستمر.

وتشير الملاحظة الثانية إلى أنه إذا كان من الطبيعي أن يكون التناقض مع تنظيم quot;القاعدةquot; رئيسيّاً وغير قابل للتسوية فإن تفادي العنف كان ممكناً في حالة الصراع مع الحوثيين، وعلى رغم وجود اتفاق سياسي بين الطرفين حاليّاً فإن جوّاً من الضبابية وعدم الثقة ما زال شائعاً بينهما، والصراع للأسف مرشح للعودة إلى التفجر في أية لحظة تتغير فيها الظروف. أما التطور الأخطر فهو ما لحق بحركة المعارضة في الجنوب فيما يعرف بـquot;الحراك الجنوبيquot;، فقد تطورت هذه الحركة من حركة quot;مطلبيةquot; إلى حركة ترفع على استحياء شعارات انفصالية، ثم تدافع عنها دون تحفظ، وها هي تتخذ الآن لنفسها نهجاً عسكريّاً، ولأن الأسلوب الذي تتبعه في المواجهات العسكرية قائم على ما يشبه حرب العصابات فإن الأفق العسكري للقضاء عليها مسدود، ولا يبقى الطريق مفتوحاً إلا لمبادرات سياسية جسورة تستجيب لكافة المطالب الجنوبية العادلة من أجل عزل مطلب الانفصال ووأده.

وقد ينقلنا ما سبق إلى الملاحظة الثالثة، التي تفيد بأن تفاقم الأوضاع على هذا النحو في اليمن لابد وأن يكون ذا مغزى بالنسبة للأسلوب المتبع في مواجهة مصادر التهديد. ولاشك أنه أسلوب عقيم كونه مقتصراً حتى الآن على القوة وحدها، ومن المستحيل أن يمثل هذا طريقاً لحل، كما أن إعمال القوة يتم أحياناً على نحو عشوائي يؤدي إلى سقوط ضحايا أبرياء الأمر الذي قد يزيد شعبية المعارضة.

ويخشى المرء كثيراً من أن تنغمس الدوائر المسؤولة في اليمن في مواجهة هذا العنف اليومي على نحو يحجب عنها دلالاته، فعندما يصبح ارتفاع درجة حرارة المريض عرضاً دائماً قد يكتفي معالجوه أو محبوه بإبداء سعادتهم بانخفاض درجة حرارته بقدر يسير، أو الإعراب عن قلقهم إذا ارتفعت بالقدر نفسه، لكنهم في كل الأحوال ينسون أن هذه ليست المشكلة، لأنهم فيما يكونون منشغلين بـquot;المسكناتquot; يواصل السبب الأصيل لارتفاع الحرارة فعله في جسد المريض حتى يقضي عليه أو يكاد. وهكذا يتعجب قارئ التاريخ كثيراً كيف لم تتبين نظم حاكمة هول الخطر الذي يحيط بها في مراحل حاسمة؟ وكيف ثابرت على سياسة تقليدية في مواجهته حتى وقعت الواقعة؟ إن اليمن جزء مهم من الوطن العربي له أهميته الإقليمية والدولية، ومن شأن استمرار الأوضاع فيه على ما هي عليه أن يحدث تهديداً حقيقيّاً بتدويل الصراع، وستكون هذه كارثة أخرى. فهل نصرّ على ضياع ما بقي من فرصة لتدارك الأوضاع؟ أم يحدونا الأمل في فعل رشيد يفهم حقائق الصراع ويستطيع أن يبلور رؤية سليمة لمواجهته؟