رياض نعسان أغا


أخيراً تحرك الضمير الإنساني ودبت فيه الحياة، وبدأت قوافل فك الحصار عن غزة تحاصر إسرائيل، فباتت هي المعزولة وراء جدارها المقيت الذي صار سجناً لـquot;غيتوquot; كبير، فلم تجد من ينقذها منه ويخرجها من مأزقها التاريخي غير الإسراع في طلب المفاوضات التي أهملتها الإدارة الأميركية السابقة عقداً كاملاً، واستعاضت عنها بسلسلة حروب ضد العرب والمسلمين حددها رامسفيلد بعشر سنين، وقد أوشكت الدول المعتدية أن تعلن الخسارة واليأس، ولاسيما بعد أن وصل تململ الحلفاء إلى حد الانسحابات المتتالية من المشروع الصهيوني الفاشل الذي لم يحقق سوى طوفان من الدم، وركام مريع من التدمير، وعشرات الآلاف من الضحايا الذين تركوا وراءهم أطفالاً ما يزالون يتوالدون وسيبقون وقد أهلتهم الحروب لتحمل المزيد من الألم، ومزيد من الإصرار على تحرير أرضهم من الغزاة الهمجيين الذين بشروا بالديمقراطية وحقوق الإنسان وتمكين المرأة وبالتقدم العلمي فكانت النتيجة ما ترى البشرية من خزي وعار. وحسب الشعب الأميركي الطيب والشعوب الأوروبية الحضارية التي شاركت جيوشها في هذه الحروب أو دعمتها أن تتأمل ما آلَ إليه حال البشر في أفغانستان والعراق كي تدرك حجم الجرائم التي ارتكبها قادتها ضد الإنسانية. والرأس المدبر لكل هذه الجرائم هو إسرائيل التي تمكنت من توريط أميركا ودول عظمى في أوروبا بحروب لم تحقق لها سوى هذا التردي الأخلاقي المريع، والخروج من عالم الحضارة إلى جرائم القذارة والسقوط في مستنقع الصهيونية الآسن الذي تفوح منه روائح ملايين الجثث التي تنهض من ركامها روح المقاومة التي هي وحدها من جعل المشروع الدموي يسقط إلى درجة أن الولايات المتحدة تحاول اليوم مصالحة مع quot;طالبانquot; في أفغانستان، ثم لا تدري كيف تخرج من ورطتها التاريخية في العراق، وإلى درجة أن إسرائيل ترتعد من تصور الخسائر التي ستمنى بها إذا ما شنت حرباً جديدة على المقاومة. وهذه هي علامات الطريق المضيئة التي عنيتها، وأما الظلمة الداكنة فهي في السعي الدؤوب لإطفاء هذه الإضاءة، وفي إيجاد مخرج لإسرائيل من مأزقها، وأخشى أن يكون هذا المخرج هو إعلان شوط جديد من المفاوضات.

ولست أقلل من شأن المبادئ التي تعلن في حفلات افتتاح أية مفاوضات، فلابد من التأكيد فيها عربيّاً على (قضية القدس واللاجئين وإيقاف الاستيطان والإفراج عن المعتقلين ومعالجة قضايا الحدود والمياه وإقامة دولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل، وبالطبع إنهاء الحصار على غزة، بل إنهاء الصراع كله في الشرق الأوسط). ولكن الشرط الإسرائيلي المقابل هو أن يعترف الفلسطينيون بأن إسرائيل هي دولة للشعب اليهودي (ولا ندري إن كان ذلك يعني أن يطرد منها غير اليهود) وقد تحدث نتنياهو عن تنازلات مؤلمة (ولا ندري عن أي حق من حقوقها ستتنازل إسرائيل وهي دولة معتدية ومغتصبة بالأساس لأرض ليست أرضها ولا حق لها فيها) ولست أقلل من أهمية الحرص الفلسطيني الرسمي على استمرار العلاقة مع الولايات المتحدة الراعية للمفاوضات، ولكنني على صعيد شخصي أخشى أن يكون هدف أميركا أن تساهم أمام المجتمع الدولي بتبييض وجه إسرائيل بعد أن صار أسود كالحاً ولاسيما بعد جرائمها الأخيرة في منع قوافل الحرية من الوصول إلى غزة، وفي انكشاف هول الجرائم التي ارتكبتها، وأن تساهم كذلك في منح الإسرائيليين ذريعة أقوى للقضاء على المقاومة الفلسطينية بحجة أنها تعطل مسيرة السلام وتصر على (شعارات فارغة، وتستغل معاناة الشعب الفلسطيني لتحقيق أجندات فئوية وإقليمية... إلخ) فلا تسفر المفاوضات إلا عن ضربات متلاحقة للمقاومة يتم بعدها إعلان فشل التوصل إلى حل أو تسوية أو حتى إلى اتفاق المبادئ الذي قال نتنياهو إنه quot;هو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه بعد عامquot; وقد زادتنا quot;يديعوت أحرونوتquot; ريبة حين أعلنت أن نتنياهو لا يريد الخوض في التفاصيل، فهو يريد استبعاد الحديث عن قضايا (القدس واللاجئين والمستوطنات) ويريد أن يبحث فقط في (القضايا الأمنية) أي أنه يريد فقط الخلاص من المقاومة! وهذه quot;هآرتسquot; تؤكد أن من أهم المواقف الإسرائيلية إقناع عباس بعدم تفجير المفاوضات بطرح قضايا الاستيطان! والمفارقة الأخرى أعلنها المستوطنون الذين عبر عنهم quot;نفتالي بينيتquot; مدير مجلس المستوطنات في (الضفة الغربية) حين قال quot;إن المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة تهدف إلى سلام زائفquot; مشيراً إلى quot;البدء ببناء منازل في 80 مستوطنة مع انتهاء الحظر في 28 سبتمبر الحاليquot;، ولا أعتقد أن إسرائيل ستعاقب أو تعتقل quot;نفتاليquot; أو سواه ممن يعكرون صفو انطلاق المفاوضات، وأرجو أن يتعلم العرب من الإسرائيليين ذلك، فلا يعتب علينا أحد إن ارتبنا في أهداف إسرائيل من هذا الشوط من المفاوضات. وأعلن أنني شخصيّاً مقتنع بتوصيف هذا اليهودي المخلص quot;بينيتquot; لمبدأ القوة حين حدد ما ستسفر عنه المفاوضات سلفاً، وهو الذي قال أيضاً quot;إن الإسرائيليين موجودون هنا، وسيبقون إلى الأبد، وسيزدادون قوة، وحين يدرك الفلسطينيون ذلك سيستسلمونquot;! وهذا هو المنطق الذي يجب أن نتأمله، والرد عليه هو أن الفلسطينيين موجودون أيضاً، وسيستمرون في المقاومة، ولن يمنحوا إسرائيل الأمن الذي تبحث عنه بلا ثمن، ولن يقر أحد بشرعية أن تصير فلسطين العربية منذ آلاف السنين دولة يهودية، وسيزداد الفلسطينيون قوة، ولا أمل لإسرائيل في المستقبل أكبر من أمل الصليبيين الذين احتلوا القدس وجعلوها مملكتهم قرناً من الزمان سرعان ما ابتلعه التاريخ، ولا يملك أحد من العرب المسلمين والمسيحيين حق الاعتراف بكون إسرائيل دولة دينية يهودية توراتية تمتلك قوة نووية حتى لو أقيمت إلى جانبها دويلة فلسطينية منزوعة السلاح والسيادة. وأنا لا أدعو إلى رفض المفاوضات، ولكنني أتمنى على الجانب العربي أن يحقق كل ما فعله المحاربون القدماء عبر التاريخ وهو (أن تكون المفاوضات في خدمة المقاومة، وأن تكون المقاومة في خدمة المفاوضات) لأن قوة المقاومة تنعكس على مائدة التفاوض، مثلما ينعكس ضعفها عليها. وأعتقد أن خير وسيلة لإنجاح المفاوضات الراهنة هي تمكين المقاومة كي تواكب التفاوض وتعلي سقف المطالب الفلسطينية لتحقيق السلام، أما إذا كان ما ستحققه المفاوضات هو ترتيب أمن إسرائيل وحدها على حساب الشعب الفلسطيني فلا أمل إلا بمزيد من المقاومة.