ناصر الحجيلان

تعيش الولايات المتحدة هذه الأيام ذكرى الحادي عشر من سبتمبر وهي تستدعي الكثير من الذكريات المؤلمة حول ماحصل قبل تسع سنوات في مدينة نيويورك. ومع مشاعر الحزن والأسى لازالت مشاعر الغضب والحنق لدى البعض تغلي كل عام في محاولة للبحث عن وسيلة للانتقام ليس فقط من الفئة المتشددة التي تسعى لتدمير الديانات والثقافات الأخرى، وإنما كذلك من جميع المسلمين لما يرون فيهم من أمور يعتقدون أنها تُساهم في تعزيز روح الكراهية والبعد والفرقة.

فعلى سبيل المثال، يعتقد البعض حول العالم وفي أمريكا بالتحديد أن الكثير من المسلمين لديهم مشكلة في التعايش مع الثقافات والديانات الأخرى. ورغم أن تاريخ المسلمين القديم ينفي ذلك بشكل صريح إلا أنّ تصرّفات بعض المسلمين الحاليين تجعل تاريخهم صعب التصديق بالنسبة للغربيين. هذا إلى جانب أن الكثير من الممارسات الثقافية الشرقية التي تعتبر عند الآخرين منافية لحقوق الإنسان قد اختلطت بالتشريعات الإسلامية عن طريق الشروحات والفتاوى والاجتهادات التي أصبحت موضة الجميع في الوقت الحالي.

وإذا أضفنا إلى ذلك، التحزّبات العرقية والفوقية الثقافية التي تعتري البعض ضد العرب والمسلمين، فإن هذه العنصرية تجد لها عبر منفذ الاختلاف الديني فرصة للتنكيل والخلاف. وهنا تظهر مشكلة عويصة لأنّ هذا الخلاف يتخفّى بالحساسيات الدينية التي يمكن النقاش حول بعضها، ولكن الحقيقة هي أنهم يكرهون العرق برمته ، وهذا لاحل له سوى تغيير جذري في التفكير، وهو أمر لايمكن اعتباره سهلا.

ووسط هذه البيئة الخصبة للنزاع يظهر قسيس يصفه الكثير من الأمريكان بالمعتوه اسمه تيري جونز. وهو شخص حديث عهد بالمال والغنى، وربما يبحث بشراهة عن الشهرة. وقد صرح الرئيس الأمريكي أوباما أنه يخشى أن يحذو حذوه البعض محاولين جلب الانتباه لأنفسهم. وقد ناشد القسيس أن يتذكر أنه بما يفعل قد يؤذي المصالح الأمريكية الدولية بما فيها أمن الجنود الأمريكيين في دول مثل أفغانستان وباكستان، كما يُعرض الأمريكان المدنيين للخطر. وحينما سئل الرئيس الأمريكي عن رأيه في بناء مسجد نيويورك، الذي أثار الضجة مؤخرًا كون المسلمين هناك يريدون بناءه بالقرب من موقع انهيار البرجين، شرح للصحفيين أنه: laquo;إن كان يمكن بناء كنيسة للمسيحيين، ومعبد لليهود، ومعبد آخر للهندوس. فلماذا لايمكن بناء مسجد كذلك؟ نحن في أمريكا نعامل الجميع سواسية ولدينا حرية دينية نعتزّ بهاraquo;.

والحقيقة أن رأي الإدارة الأمريكية هو في الواقع الرأي الذي يمكن توقعه من أمريكا، خصوصًا أنها لطالما وجدت فخرًا في الحريات التي تعزّزها على أرضها وتدعمها حول العالم. وعند متابعة القنوات الأمريكية الشهيرة خصوصًا ام اس ان بي سي، وسي ان ان، واي بي سي، فإنه يمكن ملاحظة الدعم الإعلامي لهذا الموقف الإيجابي. وهو موقف اشتمل على معارضة قوية لفكرة تيري جونز حول حرق القرآن الذي يريد أن يبدأه ليكون طقسًا سنويًا دوليًا؛ وكما صرح في مقابلة تلفزيونة أنه لايرى القرآن مقدسًا لديه، وأنه ndash; في تناقض تام ومضحك- لايملك شيئًا ضد المسلمين وإنما ضد الإسلام الذي يصفه أنه من صنع الشيطان.

وفي محاولة لإظهار التعاطف الثقافي والديني والدعم الإنساني للمسلمين في أمريكا بدأت بعض الكنائس في نيويورك وغيرها بوضع لافتات ترحّب ببناء المسجد، الذي يرفضه عدد من الأمريكان والمسلمين بسبب ما سيجلبه من فتن لعل أولها ما أثاره جونز من تصرّف ضد الإسلام. وهذه الأيام، يظهر الكثير من رجال الدين المسيحيين على قنوات أمريكا مُنددين بما يقوم به جونز ويقول أحدهم: laquo;إن جونز لايتبع تعاليم المسيح في التسامح وإنما يتبع رؤية ضالة لاتمثل الكنيسة الصحيحةraquo;. ويقول قس أمريكي آخر: laquo;الإسلام الآن يحاكم بشكل ظالم ومجحف بحق كل متدين من أي ديانة كانت، وهذا شيء يجب أن نقف ضده وألا نسمح به أبدا خصوصا في أمريكاraquo;. ويقول أحد المحللين: laquo;إن بناء مسجد نيويورك قرب موقع انهيار البرجين قدّم فرصة للمتطرفين المعادين للإسلام لكي يظهروا من جديد. وهذا شيء غير مقبول، فنحن لانسمح بمعاداة أي دين ولو لمدة بسيطة أو بسبب واقعة معينةraquo;. وعن الأمريكيين العاديين، فالأغلبية ضد جونز ومايحاول أن يخطط له من الاحتفال بحرق القرآن؛ ففي موقع توباكس صوّت أكثر من 89 بالمئة ضد حرق القرآن لأنه لايعكس أبدًا القيم الأمريكية التي تمثل الشعب الأمريكي. بل إن البعض طالب بسجن هذا القسيس لأنه يعرض حياة الأمريكيين للخطر، والبعض الآخر وجد أنه مخبول صنعته قناة الفوكس نيوزر وصراخ المذيع الأمريكي المتطرف روش ليمبواه، الذي كان زميلا له في المرحلة الثانوية! بينما طالب بعض الأمريكان في مواقع إخبارية أخرى لعرض القسيس للمعاينة النفسية لأنه بلاشك لايبدو متوازنًا. وطبعًا توجد فئة قليلة داعمة للتطرف مثل أي مجتمع آخر، وهؤلاء يرون متنفسًا لهم في قنوات محدودة مثل فوكس نيوز، وإذاعة لمبواه.

وهذا الموقف المضاد للسيد جونز وأتباعه، يكشف لنا عن أن الأغلبية الساحقة من الأمريكيين هم من أنصار السلام والحب والتعايش واحترام الحريات. وبهذا تعززت القيم الأمريكية ورسخت على مر السنين، ولن يضيرها وجود أصوات شاذة قليلة هنا وهناك لا تمثل إلا نفسها. وكما هو معلوم، فإن الشذوذ ظاهرة موجودة في كثير من المجتمعات، وتصبح بلا قيمة حينما يقف الجميع ضدّها ويعملون على ما يضادها.

إن موقف الأمريكيين من القسيس جونز يعدّ مثالا يمكن أن تستفيد منه الشعوب الإسلامية في رفض الفتاوى والآراء والشروحات الداعية للعنف والمضادة للإنسانية.