بشير موسى نافع


خلال أيام قليلة من هذا الشهر، تصاعد التوتر الطائفي في مصر ليقترب من حافة الصدام الأهلي. ما أطلق الشرارة كان قضية سيدة، زوجة أحد قسيسي الكنيسة القبطية، التي ذكر أنها أعلنت إسلامها وتركت بيت الزوجية، ثم قامت جهات أمنية رسمية بتسليمها للكنيسة، التي سارعت إلى عزلها وإخفائها.
أوساط الكنيسة القبطية، التي أنكرت اعتناق السيدة للإسلام، أصدرت شريطاً مصوراً، تؤكد فيه السيدة بقاءها على دينها. ولكن مكان السيدة بالرغم من ذلك ظل سراً. في سياق الجدل حول القضية، أشار أحد القساوسة إلى أن الكنيسة قامت بالفعل بـ 'غسيل مخ' للسيدة، التي زعم أنها تعرضت لـ 'غسيل مخ' مسبق لدفعها إلى التخلي عن دينها واعتناق الإسلام؛ بينما لم ينكر أحد مسؤولي الكنيسة الكبار حقيقة عزل السيدة وإخفائها بالقول أنها تقيم الآن في 'مكان آمن'. ما الذي حدث بشأن إسلام هذه السيدة، وما هي الظروف التي أحاطت بالشريط المصور الذي أنكرت، أو تراجعت، فيه عن اعتناق الإسلام، ولماذا تسلمها السلطات الأمنية للكنيسة القبطية اصلاً، هي أسئلة لا يمكن الإجابة عليها بقدر كبير من اليقين.
المتيقن أن القضية أطلقت مظاهرات حاشدة ضد الكنيسة، وتبادل تصريحات لا تقل حدة بين قيادات كنسية نافذة، مثل الأنبا بيشوي، الذي وصف الأكثرية المسلمة بالضيوف على مصر، وشخصيات إسلامية معروفة، مثل د. سليم العوا، الذي اعتبر أن تصرفات الكنيسة تهدد سلم واستقرار البلاد.
المشكلة أن هذه ليست الحالة الأولى من هذا النوع. فقبل زهاء العامين، شهدت مصر قضية أكثر وضوحاً، عندما قامت جهة أمنية مصرية بتسليم سيدة أخرى لمسؤولين في الكنيسة المصرية، قاموا على الأرجح بإيداعها أحد الأديرة. ولم تعد السيدة إلى منزلها، أو تظهر في العلن منذ ذلك الوقت. وإن كانت حالة السيدة الأخيرة قد انتابها بعض الغموض، من ناحية حقيقة اعتناقها للإسلام، لم يكن ثمة شك في حالة السيدة الأولى. وإن لم يكن مدهشاً أن تثير الحالتان بعضاً من التوتر الطائفي، في ظل المناخ الهش من العلاقات القبطية - الإسلامية في مصر، فقد كان المدهش افتراض الدوائر الكنسية المصرية لنفسها سلطات غير معهودة، تفوق حتى السلطات غير الدستورية للمؤسسة الأمنية. فإن عرفت مصر حالات من الاعتقال بلا محاكمة لفترات طويلة، وحالات من التعذيب، تعهدتها مؤسسات أمنية، فمن الغريب أن تقوم سلطات كنسية بعزل (اعتقال) مواطنين لفترات طويلة وغير محددة، بدون أن تكون ثمة رقابة قانونية على الظروف التي تحيط بهؤلاء المواطنين في معازلهم الكنسية، وما إن كان العزل يتم بإرادة ورغبة هؤلاء المواطنين، أو إن كان أي منهم يتعرض لوسائل قهر واضطهاد.
ثمة من يقول ان حالات اعتناق أقباط للإسلام تحدث عادة وفي شكل متكرر، بدون تدخل من الكنيسة بأي حال من الأحول، وأن تدخل الكنيسة في حالتي السيدتين وقع بسبب ظروف خاصة واستثنائية، سواء الضجة التي أحاطت بالحالة الأولى، وكون السيدة الثانية زوج رجل دين وارع كنسي قبطي. بمعنى أن الاستفزاز، المقصود أو غير المقصود، وتصوير إسلام السيدتين وكأنه انعكاس لحركة واسعة للتخلي عن الدين تشهدها أوساط الأقباط المصريين، هو الذي دفع الكنيسة للتدخل؛ بينما لا يكاد يسمع أحد بحالات اعتناق مسلمين للمسيحية. من جهة أخرى، يبدو من الواضح في ظل الضغوط الغربية، الدينية والسياسية، التي تتعرض لها الدولة المصرية بخصوص أوضاع الأقلية القبطية، المسوغة وغير المسوغة، أن الدولة قررت عن سابق وعي وتصميم التخلي عن بعض مسؤولياتها وواجباتها تجاه مواطنيها، لإرضاء الكنيسة والدوائر التي تدعمها في الخارج. وهناك من يقول ان لإرضاء الكنيسة القبطية هدفاً آخر، يتعلق بتأييد الكنيسة المعلن للنظام والطبقة الحاكمة.
بيد أن الخلاف في وجهات النظر لا يقلل من التناقضات التي تحف بهذه القضية والخطاب الذي تبنته دوائر كنسية مصرية لمعالجتها. لا تخفي الكنيسة القبطية، وعلى رأسها البابا شنودة، تأييدها ومساندتها للنظام الحاكم في مصر. وفي أكثر من مناسبة، أعربت الكنيسة عن عدم اتفاقها مع الأصوات القبطية في الخارج، سيما في الولايات المتحدة، التي تحرض ضد الحكم المصري وسياساته الدينية. وليس ثمة شك أن الدولة تمثل حاجة حيوية لضمان الأمن والسلم في ظروف تصاعد التوتر بين الأقلية والأكثرية، ليس في مصر وحسب، بل وفي كل مواقع التدافع الأهلي بين الجماعات الدينية والإثنية. عندما تنهار الأسس الثقافية والاجتماعية للسلم والتوافق الأهلي، تصبح الدولة الجدار الأخير لحماية مواطنيها من بعضهم البعض، ومن قيام العناصر المتطرفة بجر البلاد إلى العنف والصدام. في إطار الدولة الحديثة، لا تمتلك الدولة سلطة القانون وحسب، بل وتحتفظ بأدوات العنف والقهر الكفيلة بإقرار القانون وإمضاء إرادته.
وبغض النظر عن التفسيرات المختلفة لقضيتي السيدتين، فليس ثمة شك أن تصرفات الكنيسة القبطية تستبطن إضعافاً بالغاً للدولة المصرية، وخدشاً عميقاً لصورتها. وعندما تضعف الدولة وتأخذ صورتها في التشقق فإن الخاسر عادة يكون الأقلية لا الأكثرية، اللهم إلا إن كان هناك في أوساط الكنيسة القبطية من يرغب فعلاً ، ويعمل على، دفع البلاد إلى الصدام والعنف الطائفيين، ظناً بأن انهيار السلم الأهلي سيصب لصالح الكنيسة.
مهما كان الأمر فالواضح أن قضيتي السيدتين تعكس تصدعاً أعمق في الاجتماع الوطني المصري. يتعلق أحد وجوه هذا التصدع بسلسلة من الاحتجاجات والمطالب القبطية، التي ما ان تندلع مشكلة طائفية ما حتى يعاد التذكير بكل هذه المطالب والاحتجاجات، بغض النظر عما إن كانت ثمة علاقة بين المشكلة المثارة ومجمل الوضع القبطي في البلاد. بين هذه الاحتجاجات والمطالب تبرز مسألة حرية بناء الكنائس القبطية، وتعيين الأقباط في مواقع وظيفية حكومية رفيعة أو حساسة، مثل حجم التمثيل القبطي في سلك المحافظين، السلك الدبلوماسي، القضاة ووكلاء النيابة ومؤسسات الدولة الأمنية. وفي المقابل، ثمة مقارنات بين وضع المسلمين والأقباط لا تقل وقعاً ووجاهة. ففي حين تسيطر الدولة المصرية، كما أغلب دول المشرق العربي ـ الإسلامي، على الشأن الإسلامي: المساجد والأوقاف، التوجيه الديني ومؤسسة العلماء، فإن الكنيسة تتمتع بحرية واستقلال ذاتي كبير في إدارة شؤونها وشؤون رعيتها الدينية. وبينما يحرص المسلمون المعارضون على حصر معارضتهم للدولة ونظام الحكم في المجال الوطني، فإن المعارضين الأقباط يبتزون بلادهم بالضغوط الأجنبية، والغربية منها على وجه الخصوص. وبالرغم من أن الكنيسة تحرص على وضع مسافة بينها وبين الناشطين الأقباط في الخارج، فليس من العسير رؤية اعتماد الكنيسة على المردود السياسي الذي يوفره هؤلاء الناشطون وعلاقاتهم بدوائر الحكم الغربية، ورؤية المشترك الكبير بين ناشطي الخارج ورجالات الكنسية في الداخل.
الحقيقة، كما هي في أغلب الأحوال، نسبية، وليس من السهل دائماً اكتشاف الحد الفاصل بين ما هو حق وما هو باطل في الجدل والتدافع الأهليين، الطائفي أو الإثني. مسائل الهوية، كما يعرف دارسو التاريخ والسياسة، هي مركب متداخل من الأسطورة والواقع، من الأوهام والحقائق. ثمة تاريخ طويل، لا مجال لمراجعته هنا، لمسألة وضع الجماعات الدينية والمذهبية ـ الطائفية في المجال الإسلامي السني، القانوني والاجتماعي والسياسي. وتشهد مصر في العقود الأخيرة بلا شك ، وبالرغم من التوتر الطائفي المتكرر والمتقطع، تقدماً كبيراً في مجال تعزيز الأسس القانونية للمواطنة في إطار الدولة الحديثة. ولأن الدولة المصرية، ومنذ العهد الملكي، تخوض معركة متصلة ضد قوى الإسلام السياسي، فإن الحرية الدينية التي يتمتع بها الأقباط المصريون تفوق تلك التي يعيشها المسلمون بأشواط، خشية الدولة من أن تشكل التنظيمات الاجتماعية والإسلامية التقليدية قاعدة ورافداً للقوى الإسلامية السياسية جعلها تنزع إلى فرض سيطرتها الكاملة على مجالات العمل والتعبير الإسلاميين المتعددة. ولا تختلف الدولة المصرية، التي تحرص على طابع مدني علماني غير حاد، في نزعتها هذه عن دول أكثر حدة في توجهها العلماني، مثل سورية وتركيا. في كل الحالات، أسست الدولة العلمانية الحديثة في المشرق ليس على مفهوم فصل الدين عن الدولة، بل بمفهوم سيطرة الدولة على الدين. وهذا ما يجعل التصور القبطي للدولة المصرية خاطئاً في جوهره، بالرغم من أن بعض المطالب القبطية مسوغة. الدولة المصرية ليست دولة إسلامية ـ دينية، ولم تكن كذلك منذ لحظة ولادتها الثانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكنها دولة حديثة تجهد للحفاظ على تحكمها في الشأن الديني وإدارته، ووضعه لخدمة بقائها واستمرارها. ولعل الكثير من المسلمين المصريين سيرون أن علمانية الدولة الحديثة أكثر عدلاً إن تعاملت الدولة مع الشأن الإسلامي تعاملها مع الشأن القبطي، وأعطت المجال الإسلامي من الحرية ما تعطيه للمؤسسة القبطية.
خلف كل هذا ثمة إشكالية أعمق بكثير، تتجاوز سطحية الخطاب القبطي غير التاريخي، الذي يتبناه رجال الكنيسة ويشحن به أبناء رعيتها البسطاء، الذين يجردون تدريجياً وفي صورة حثيثة من وعيهم الوطني؛ وتتجاوز حدة ردود فعل بعض المسلمين غير الواعية، التي تعكس وتحمل من الاستفزاز أكثر مما تعكس من الحكمة والتدبر.
في مصر، كما في أغلب دول المشرق العربي ـ الإسلامي، ثمة قدر من القسر رافق الانتقال من الاجتماع السياسي التقليدي إلى الدولة الحديثة، منذ نهايات القرن التاسع عشر وبداية العشرين. وبفعل هذا القدر من القسر والعنف، لم تتأمل الشعوب وهي تبني دولتها الحديثة خياراتها كما ينبغي، ولا توفرت لها الفرصة الكافية لكي تزرع قواعد هذه الدولة، القانونية والسياسية والاجتماعية، في صورة طبيعية وسلسة في وعيها الجمعي. وكان منطقياً بالتالي أن ينعكس هذا التطور المشوه من الاجتماع التقليدي إلى الدولة الحديثة في توتر طائفي أو إثني متكرر، بنية سياسة واجتماعية قلقة، وأحياناً في تفكك اجتماعي وحروب أهلية. والاجتماع المصري حتى الآن في وضع أفضل بكثير من العراق ولبنان واليمن. ولكن أحداً لا يستطيع ضمان المستقبل، على أية حال.
' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث