مصطفى الفقي

لابد أن يسيطر على تفكيرنا جميعاً ذلك ldquo;القادم الجديدrdquo; الذي سوف يغيِّر من خريطة ldquo;السودانrdquo; وrdquo;إفريقياrdquo; وrdquo;الوطن العربيrdquo; في وقت واحد بالاحتمالات الزائدة لميلاد دولة سوف تظهر بانفصال جنوب ldquo;السودانrdquo; عن شماله، ولقد عكفت في الأسابيع الأخيرة على قراءة كتاب قيِّم حول تحليل المراسلات المتبادلة بين الخديوي ldquo;إسماعيلrdquo; والجنرال ldquo;جوردونrdquo; بين عامي 1874 و،1876 وهو يحكي قصة ldquo;مياه النيلrdquo; باتفاقياته ومشروعاته، بتاريخه ومشكلاته، وسوف أواصل الكتابة حول ما جاء به ذلك الكتاب القيِّم الذي يعتبر موسوعة في موضوعه وعمدة في تخصصه لكي نستيقظ جميعاً من ذلك الوهم الذي أصبح حلماً ثم أضحى حقيقة، لذلك يتعين علينا أن نحكي لأجيالنا القادمة عن الشأن السوداني قدر ما نستطيع، خصوصاً أن أجدادنا قد انشغلوا به طويلاً، ولكننا انصرفنا عنه عندما ظهر الخطر الصهيوني وقامت الدولة الصهيونية، حيث التهمت قضية ldquo;الشرق الأوسطrdquo; جل وقتنا ومعظم اهتماماتنا، بحيث أصبح ldquo;السودانrdquo; شأناً ثانوياً موسمياً نتذكره كلما تدفقت الأمطار على هضبة ldquo;الحبشةrdquo;! لذلك فإنني سوف أقتحم هذه القضية بكل ما فيها من محاذير لكي أضع القارئ أمام التطورات المتلاحقة لهذا الشأن المهم وسوف أطرح بعض الرؤى والأفكار من خلال النقاط التالية:

* أولاً: إن الدور ldquo;الإسرائيليrdquo; لا يبدو بعيداً عما جرى ويجري في ldquo;جنوب السودانrdquo;، بل إنني لا أتصور دولة أكثر سعادة من الدولة الصهيونية بانفصال الجنوب وتمزيق دولة ldquo;السودان الكبيرrdquo; كجزء من مخطط هذه هي بدايته ولكنها ليست نهايته، كما أن هناك دوائر غربية - أوروبية وأمريكية - ترحب ترحيباً شديداً بتقسيم ldquo;السودانrdquo;، بعضها يستند إلى دوافع دينية واهية وبعضها الآخر يغذي نعرات عرقية تتحدث عن فروق وهمية بين دماء عربية وأصول إفريقية! ويجب أن ألفت النظر هنا إلى أن الاستناد إلى العامل الديني في التقسيم يبدو أمراً دعائياً أكثر منه حقيقياً، فالشمال أغلبيته مسلمة، ولكن الجنوب يضم أيضاً نسبة لا بأس بها من المسلمين تكاد تقترب من نسبة المسيحيين فيه، بالإضافة إلى بعض الديانات الإفريقية أو التجمعات الوثنية، كما أنه لا يخفى أن في ldquo;شمال السودانrdquo; نسبة من المسيحيين يتبع جزء كبير منهم الكنيسة القبطية المصرية، وعلى ذلك فإن الدعاوى الدينية وراء تقسيم السودان هي أضعف حلقة في فكر من يقفون وراءه .

* ثانياً: إن التقصير العربي تجاه ldquo;جنوب السودانrdquo; هو أمر يدعو إلى الشعور الدائم بالذنب، فعندما زرت الجنوب منذ عدة سنوات وجدت أن البصمة العربية هي ldquo;مسجد فاروقrdquo; في مدينة ldquo;ملكالrdquo; ومستشفى ldquo;الصبّاحrdquo; في مدينة ldquo;جوباrdquo;! ولم يتنبه العرب كالمعتاد إلى أهمية ldquo;جنوب السودانrdquo; الذي يمثل التخوم الفاصلة بين الوطن العربي وباقي أجزاء القارة الإفريقية، ويكفي أن نتأمل ما سوف يحدث عندما تكتشف دولة ldquo;السودان الشماليrdquo; أن بعض جيرانها من الدول الإفريقية لم يعودوا جيراناً مباشرين لها، عندئذٍ تدرك أنها أمام تحول خطير قد تكون له انعكاساته المدبرة على الأمن القومي العربي ومستقبل مياه النيل بل طبيعة العلاقات العربية الإفريقية عموماً .

* ثالثاً: إن استقراء تاريخ ldquo;السودانrdquo; الحديث يوضح أن حق ldquo;تقرير المصيرrdquo; لم يكن مطروحاً قبل وصول ldquo;ثورة الإنقاذrdquo; إلى الحكم عام ،1989 لذلك فإننا نظن، وليس كل الظن إثماً، أن نظام ldquo;الترابي والبشيرrdquo; لم يكن شديد الحرص على بقاء الجنوب جزءاً من دولة ldquo;السودان الكبيرrdquo;، كما لم تحرص الحكومة في ldquo;الخرطومrdquo; خلال السنوات الأخيرة على جعل قضية الوحدة السودانية خياراً جاذباً لأبناء الجنوب .

* رابعاً: إن اختفاء جون قرنق زعيم الحركة الشعبية من المسرح السياسي في حادث طائرة غامض قد أجهز على الطرح الوحدوي في الجنوب، فقد كان ldquo;قرنقrdquo; مطالباً بrdquo;السودانrdquo; ديمقراطي علماني تعيش فيه كل الأعراق والديانات والثقافات في إطار مشترك لا يفرض فيه الشمال إيديولوجية عربية إسلامية على الجنوب، لقد كان قرنق جنوبياً حالماً يطمح إلى حكم ldquo;السودانrdquo; كله من خلال صندوق الانتخابات بعدما اكتشف أن ldquo;البندقيةrdquo; ليست هي الطريق الأمثل .

* خامساً: إن السودان يدخل الآن منعطفاً تاريخياً يمثل مأزقاً يهدد مستقبل الدولة السودانية المركزية في ldquo;الخرطومrdquo;، وقد يكون هو بداية سلسلة من الحركات الانفصالية تبدأ من الغرب بإقليم دارفور ولا تنتهي به، فالسودان مستهدف والأطماع فيه كبيرة، كما أن عدوى التقسيم إذا بدأت فإنها لا ترحل سريعاً بل تكون قابلة للتكرار دائماً .

* سادساً: إن الأمر من قراءة بعض خبراء النظم السياسية يرى أن النظام السوداني في الشمال قد استبدل وحدة السودان التاريخية بفلسفة التقسيم الجديد، حتى يتسنى له تطبيق أركان الدولة الدينية في ldquo;سودان الخرطومrdquo; على النحو الذي يروق لحكامه الحاليين، وقد عبر الرئيس ldquo;عمر البشيرrdquo; عن ذلك أخيراً حين صرح بأن نتيجة الاستفتاء المنتظر لو أدت إلى انفصال الجنوب فإن ldquo;شمال السودانrdquo; سوف يكون قادراً على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في دولته بصورة كاملة .

سابعاً: إن مصر هي الغائب الحاضر في كل هذه المأساة الجغرافية التاريخية التي سوف تتغير بها، كما أسلفنا، الخريطة السياسية للوطن العربي بل القارة الإفريقية، كما أن تقسيم دولة الجوار التوأم هو أمر يحمل في طياته على مصر مخاطر بلا حدود لا تقف عند مسألة مياه النهر بل تتجاوز ذلك إلى معطيات الأمن القومي المصري كله، وإن كان يقلل من بعض تلك المخاطر لحسن الحظ أن ldquo;مصرrdquo; تتمتع تاريخياً بصورة طيبة لدى أهل الجنوب لأنها لم تقبل أبداً أن تكون طرفاً داعماً للشمال في حروبه الطويلة ضد أشقاء الجنوب .

. . . إننا مقبلون - أيها السادة - على تحول كبير لم يأخذ حظه من القلق المشروع والحذر المطلوب، نعم إننا نتحدث في الأمر بإسرافٍ في التحليل والتنظير، ولكننا لا ندرك بدقة حجم التداعيات المحتملة على الأمن القومي والمصالح العليا للوطن، خصوصاً أن مصر مستهدفة في هذه الفترة بضغوطٍ داخلية وخارجية في الوقت ذاته، وهي صورة تدعو بشدة إلى الوعي الكامل والرصد الأمين للظواهر المحيطة بنا كافة، خصوصاً أن التأثير في مستقبل المنطقة كلها يبدأ من مصر التي تقف على البوابة الشمالية الشرقية للقارة الإفريقية وتتوسط قلب العالم العربي، لذلك فإنني أريد أن أقول إن الإرهاب الذي أطل بوجهه الكئيب على أرض الكنانة ليس بعيداً عن السحب التي تتجمع في سماء الوطن، يأتي بعضها من الجنوب البعيد ويزحف بعضها الآخر من الشمال الشرقي، إذ إن مصر كانت ولا تزال وسوف تظل هي الجائزة الكبرى لكل من تدفعه أطماعٌ عدوانية توسعية عنصرية في المنطقة بأسرها، كما أن ترحيب الدوائر الغربية والصهيونية بتمزيق الخريطة الجغرافية للسودان والخروج عن الحدود التي رسمها الاستعمار ذاته في سنوات جبروته إنما هو شواهد تؤكد كلها أن هناك من يستهدف سلامة الوطن العظيم ومستقبل أجياله القادمة بالعبث في وحدة جبهته الداخلية أحياناً، وتحريض بعض دول حوض النيل عليه أحياناً أخرى . وقديماً قال حكيم عظيم خشي على غده مما رآه في يومه (إنني أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض) . . إنها حكمة تحتاج إلى التأمل وجرس إنذارٍ يدق لعله يوقظ الغافلين.