بينما تشحذ السكاكين لاقتطاع جزء من أكبر البلاد العربية مساحةً وهو السودان في سياق تجزئة المجزء وتقسيم المقسم، وبينما تلقي الدول الغربية بكل ثقلها لدعم خيار الانفصال وللحيلولة دون العودة إلى المصالحة والوحدة مستغلةً في ذلك قابلية الشعوب العربية للاستعمار والاستحمار والذلة والهوان..في هذه الأجواء الموبوءة يأتي انفجار الإسكندرية ليعطي مؤشراً على أن في انتظار العرب المزيد من بؤر التوتر، وأن انفصال جنوب السودان لن يكون نهاية مطاف التشققات والتصدعات أو وصفةً للسلام والوئام كما يمني الساسة الفاشلون أنفسهم..

انفصال جنوب السودان الذي بات هو الخيار المرجح ليس وليد يوم وليلة أو عام وعامين، ولكنه نتيجة فعل تراكمي متواصل منذ عشرات السنين من التخطيط وزرع بذور الكراهية والأحقاد في النفوس، فالحروب تبدأ في الرءوس قبل أن تشق طريقها إلى أفعال على أرض الواقع..هذه الصناعة الممنهجة للكراهية والحقد التي بتنا قاب قوسين أو أدنى من قطف ثمرتها العلقم هي مصلحة غربية صهيونية بامتياز. ولا يمكن في سبيل إثبات أننا لسنا من هواة نظرية المؤامرة أن نتغافل عن الدور المشبوه الذي يلعبه العالم الغربي عامةً في الدفع بكل قوة نحو انقسام السودان، كما أنه لا يمكننا أن ندفن رءوسنا في الرمال ونتعامى عن دور كيان الاحتلال البارز في دعم حركة الانفصال في جنوب السودان ودعمها بالمال والسلاح لطعن العالم العربي من ظهره..

أما لأننا لسنا من هواة نظرية المؤامرة فإننا نستدرك ونقول إن هذه المؤامرة الغربية الصهيونية المؤكدة لم تكن لتنجح لو أنها قابلت جداراً سميكاً من الوعي والفكر الوحدوي وثقافة التعايش والتفاهم في بلادنا العربية، فالفيروس لا يمكنه غزو الجسم إلا إذا كانت مناعته ضعيفة، وحالتنا العربية المترهلة الفاقدة للمناعة هي التي تغري أعداءنا بالهجوم علينا والتآمر لإنقاص أرضنا من أطرافها، وإلا فلو أعطينا مجموعةً عربيةً مليارات الدولارات وكل الإمكانيات المادية لتقنع أهل إقليم فرنسي بالانفصال عن بلده هل كان هذا المخطط العربي سينجح؟ بالتأكيد فإن كل ملياراتنا ستضيع هباءً وسنرد على أعقابنا خائبين لأننا سنصطدم بكتلة من الوعي والإدراك والفكر الوحدوي.

إن دور المؤامرة لا يزيد عن دور الأرضة التي أكلت منسأة النبي سليمان فكشفت موته، ولو أنه كان ينبض بالحياة لما تمكنت دابة الأرض الضعيفة من إسقاط جسده. وأعداؤنا لم يكونوا لينجحوا في تفتيت بلادنا لو أن ثقافتنا كانت محصنةً ضد القابلية للتفتت والتمزق، وفعل الغرب لا يزيد عن كونه تقاسم أملاك رجل مريض يشرف على الموت، وقد وصف القرآن كيد الشيطان بأنه كان ضعيفاً.

إن ثقافة التناحر والاختلاف وسوء تدبيرنا السياسي يتحمل قسطاً وافراً من المسئولية تجاه ما يجتاحنا من نكبات متتالية، ولو أن القوم اجتهدوا خلال السنوات العشرين الماضية في زرع بذور الحب والوئام، واعتمدوا خطاب التسامح والاستيعاب والمصالحة على المستوى الاجتماعي، وتعالوا على خلافاتهم الحزبية وحساباتهم الخاصة، وعملوا على إحلال الفكر الوحدوي محل الفكر القبلي والطائفي، لأجهضوا بذور الانفصال في مهدها، ولحاصروا المؤامرات المشبوهة وجففوا المستنفعات الآسنة التي تمدها بماء الحياة، ولأضعفوا من مبررات دعاة التفرقة والانفصال..

ولكن رغم الحزن العميق الذي يخالج صدورنا فإنه لا وقت للبكاء على اللبن المسكوب، فالوقت وقت العمل والمراجعة والتوبة الاجتماعية والسياسية، وإن كان من درس في هذه المحنة الأليمة فهو أن نتدارك أمورنا قبل أن نفجع بمصائب جديدة، وقد أعطتنا حادثة الإسكندرية تنبيهاً قوياً أنه لا يزال في جعبة من يريد بالأمة شراً المزيد..

إن ما كان يبدو قبل عشرات السنين من حديث عن تقسيم الدول العربية مبالغةً هو اليوم واقع صارخ، وما ذلك إلا بفعل زرع البذور ورعايتها وتعهدها حتى نمت واستوت على سوقها، وإن أعداءنا لا يزالون ينثرون مزيداً من بذور الكراهية والانقسام، لا يهمهم في ذلك أن يجنوا ثمرتها بعد سنوات طويلة، فكل خطوة إلى الأمام هي إنجاز مهما بدت بطيئةً، وإن الطريقة الأمثل لإجهاض بذور الكراهية والفتن هي غرس بذور الحب والسلام والوفاق الاجتماعي والمصالحة، واعتماد خطاب التقارب مع مختلف الطوائف العقائدية والمذهبية والسياسية، وعدم إفساح المجال لتصدر المتطرفين ودعاة الفتنة والكراهية من أي جهة لوسائل الإعلام لتأجيج نيران الفتنة ودق أسافين الفرقة..

إننا نجد أنفسنا مرةً أخرى في مواجهة الثقافة المريضة التي تسهل على الأعداء تنفيذ مخططاتهم وتبعدهم عن دائرة الاتهام، فمع أنني لا أشك لحظةً واحدةً بأن الكيان الصهيوني هو المستفيد الأول من انفجار الإسكندرية، ومع أنني أرجح تورط الموساد في هذه الجريمة بفعل سوابقه، وبفعل جملة من المعطيات الأمنية والسياسية التي سبقت الجريمة، رغم كل هذا يخرج بعض المتطرفين ممن يعيشون خارج العصر، ولا يكادون يفقهون شيئاً حول اللغة التي يتخاطب بها العالم في هذا العصر، وحول مآلات الأفعال وتقدير الأمور، فيجرءون على تبريرها والدفاع عنها مما يرسخ انطباعاًً في الأذهان بأن من نفذها هم عناصر من نفس تركيبتهم الثقافية والفكرية، ويحق لكيان الاحتلال حين يسمع لمثل هؤلاء البسطاء أن يضع قدميه في مياه باردة فهناك من يتصدر ليضع نفسه في فوهة المدفع وليعمي عن حقيقة كون الصهاينة المستفيد الأول..

إن مؤامرات العدو محدودة التأثير لو أنها تواجه برفض وإدانة شعبية عارمة، هذا الرفض الشعبي هو الذي ينزع الشرعية عن الفاعل ويحاصره ويحد من جدوى تحركاته..

مع أنني لا أملك المعطيات الكافية لأصدر حكماً قاطعاً تجاه من نفذ جريمة الإسكندرية، إلا أنني لا أتردد في تحميل الفكر المتطرف جانباً من المسئولية السياسية وليس الجنائية بالضرورة، فهو إن لم يكن قد نفذ هذه الحادثة بعينها فإن خطابه الفكري والإعلامي يوفر الغطاء المناسب لأصحاب الأجندة المشبوهة لممارسة ما يحلو لهم. لتقريب المعنى لو أن انفجاراً حدث في إحدى مقار الحزب الجمهوري في أمريكا مثلاً فإن أصابع الاتهام يمكن أن توجه إلى أي مكان في الدنيا، ولكنها لا يمكن أن توجه بأي حال من الأحوال إلى الحزب الديمقراطي لأن طبيعة فكره وممارساته السياسية لا تترك ثغرةً لأي احتمال يدينه.

إننا أحوج ما نكون إلى تمتين جبهتنا الداخلية، وتعزيز ثقافة التفاهم والحوار، ونزع الغطاء الذي يمكن المتربصين بالأمة من تنفيذ مخططاتهم، وغرس بذور الخير لتنبت شجرةً وارفة الظلال من السلام والوئام quot;إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبيرquot;

وخير ما أختم به هو قول ربنا عز وجل في وصف أعدائنا: quot;كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدينquot;

والله أعلى وأعلم..

[email protected]