في بلادنا العربية نضيق ذرعاً بكل من يعارضنا الرأي، ونعتبره خطراً يهدد وجودنا، ونظن أن أمارة الصحة والعافية هي ألا يسمع إلا صوت واحد ورأي واحد، وأن ذلك مؤشر على استقرار البلاد وأمنها..

هذه الطريقة في التفكير هي في أبعادها العميقة من أشكال الشرك الخفي الذي يناقض مبدأ التوحيد، لأن من يريد ألا يكون هناك معقب لحكمه، وأن يكون الأمر كله له ويظن أن رأيه هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، فهو يظن أنه وصل إلى درجة الكمال، وأنه في غنىً عن سماع الرأي الآخر..وهو بذلك يقول للناس اتخذوني إلهاً من دون الله، إن لم يقلها بلسان المقال فبلسان الحال..وهذا يدل على أننا نعيش في جاهلية وشرك، وأننا نتخذ من أنفسنا أصناماً آلهة..

التوحيد الحقيقي يعني أنه لا يوجد إلا إله واحد في السماء، أما من على الأرض فكلهم بشر يصيبون ويخطئون، وكونهم يخطئون فهذا يؤكد الحاجة إلى وجود من ينبههم إلى أخطائهم، وهذا هو دور المعارضة..

لذا فإن المؤمن الحقيقي بوحدانية الله وبقصوره البشري لا يضيق ذرعاً بوجود الرأي الآخر بل يرى فيه ضرورةً حيويةً لإكمال نقصه، فإذا لم يكن موجوداً بادر بنفسه للبحث عنه وإيجاده للاستفادة منه عملاً بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه quot;رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبيquot;.

هذا الترحيب من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمعارضة لم يكن نظرياً فحسب بل نجد ذلك في سيرته العملية حين وقف أعرابي يعترض عليه في المسجد، فلم يسكته لأنه أفقه منه، ولم يزاود عليه بتاريخه النضالي في الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم بل فرح بوجود هذا النفس المعارض، وحمد الله على الوعي المبكر من قبل الأمة بدورها تجاه الحاكم وقال كلمةً دخلت التاريخ: لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها..
إن دور الشعوب ليس هو التصفيق للحاكم والاكتفاء بعدّ مناقبه وإنجازاته فهذا يصيبه بالغرور، إنما دورها أن تراقبه وتنصح له وتحاسبه، والحاكم الراشد يرحب بهذه المعارضة ليس ترحيباً للمجاملات والعلاقات العامة وحسب، بل يستفيد منها في تقويم سلوكه وتحسين أدائه.
إن الذين يضيقون ذرعاً بالمعارضة إنما يتبعون خطا ابن آدم الأول حين قال لأخيه quot;لأقتلنكquot;، وهذه الكلمة هي تلخيص لثقافة الإلغاء والإقصاء والرغبة في التفرد بالأمر.

إن المعارضة البناءة تكمل دور الحاكم ولا تناقضه لأنها من حيث موقعها في المعارضة ومخالطتها للجماهير ترى ما لا يراه الحاكم فتكون أكثر انتباهاً لأخطائه فرداً كان أم حزباُ، أما الحاكم فإن انشغاله بمسئوليات الحكم يغرقه في التفاصيل فتغيب عنه رؤية الصورة الكاملة، وبذلك تقع الأخطاء والتجاوزات، فتكون الحاجة إلى وجود فرامل تضبط السير وتمنع الانزلاق نحو الهاوية..

أما في ظل غياب المعارضة فإن الأخطاء -وهي حتمية الوقوع كون الحاكم بشراً- لن تجد من يعالجها مما سيؤدي إلى تفاقمها وتراكمها حتى تصل بالمجتمع إلى الهلاك.
حتى لو كان للمعارضة أهدافها الحزبية من انتقادها للحكومة كما تتذرع بذلك الحكومات المستبدة لتبرير قمعها فإنه لا بأس في ذلك ما دامت هناك خطوط وطنية عامة يلتزم بها الجميع، ويمكن توظيف هذه الحزبية بشكل إيجابي لأن سعي المعارضة لتسجيل نقاط لصالحها يجعلها تنظر إلى أخطاء الحكومة بمنظار مكبر، وهذا شيء إيجابي، لأن تكبير الخطأ يساهم في التنبيه إليه، ومن ثم معالجته..

إن جدلية العلاقة بين الحكومة والمعارضة يمكن تلخيصها بالتعبير القرآني quot;أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرىquot;..إذا ضلت الحكومة ذكرتها المعارضة بتسليط الضوء على أخطائها فتضطر الحكومة للتراجع إن لم يكن رغبةً فإلجاءً.
إن فلسفة الكون قائمة على قانون الزوجية quot;ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرونquot;، والتزاوج هو سبب النمو والتكاثر، وهذا الشيء ينطبق على زوجية الحكومة والمعارضة، فوجودهما معاً يؤدي إلى تطور المجتمعات ونموها، بينما الاستفراد يؤدي إلى الاستبداد والفساد.
إن الحاجة إلى المعارضة لا يلغيها أن يكون في الحكم حكومة راشدة ولا رشيدة، فمهما بلغت كفاءة الحكومة فإن ذلك لن يغنيها عن الحاجة للرأي الآخر، لأن رأي الواحد ليس كرأي الاثنين مهما بلغت حكمة ذلك الواحد، ومهما كثرت إنجازات الحكومة المستبدة فإن ذلك لن يغفر لها الخطيئة الكبرى وهي مخالفة مبدأ الشورى والاستفراد في الحكم..

لقد قرر القرآن في أول سورة نزلت قاعدةً خطيرةً تصلح أن نتخذها أساساً للحياة السياسية، وهي quot;إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنىquot;..فالأصل في الإنسان هو الطغيان وحب الاستبداد إلا من رحم ربك، والبيئة الاجتماعية هي التي تقاوم هذه النزعة أو تنميها، فإذا كانت تلك البيئة تشجع الاستفراد في الحكم وتعطي الثقة المطلقة للحاكم دون رقيب أو حسيب فإن ذلك سيشجعه على الاستبداد، كما يقول المثل العامي (المال السايب بيعلم السرقة)، والفرق بين حاكم غربي ديمقراطي، وآخر عربي مستبد ليس أن الأول هو أتقى وأخشى، ولكن لأن بيئة الحكم في بلاده لا تسمح له بإطلاق العنان لأهوائه، ولو تبدلت الأدوار وحكم بلداً عربياً لما اختلف كثيراً عن حكامها.

لذلك فلا رهان على تقوى الإنسان وإيمانه الفردي، لأن الفرد لا تؤمن فتنته، والضمانة الحقيقية للحكم الرشيد هي المشاركة السياسية وآليات الحكم الجماعي وتعزيز الشورى وتقوية المعارضة والتداول السلمي للسلطة..
إن مشكلة ثقافتنا العربية أنها تعزز الفردية في الحكم، فيكثر عندنا استعمال تعبيرات مثل أن الحاكم الفلاني رجل طيب، وحتى في دعائنا فإن ثقافة الفردية هي المهيمنة فندعو الله بأن يهيئ للأمة قائداً ربانياً، وما ينقصنا قبل القائد الرباني هو الأمة الربانية، وحينها يكون هناك قادة ربانيون وليس واحداً، وهناك من يرى الحل في وجود خليفة، وثالث ينتظر المهدي المنتظر، ورابع يبحث عن صلاح الدين أو عن المعتصم، وكل هؤلاء يتفقون في تصورهم بأن الحل السحري سيأتي على يد فرد واحد ملهم وليس من خلال نظام حكم جماعي، ونصفق كثيراً حينما نقرأ قصة عن كرم أحد الخلفاء حين أمر بآلاف الدنانير لأحد الشعراء مكافأةً له على إحدى قصائده، ولا نتساءل عن آليات الرقابة والشفافية والمحاسبة، وأين كان دور الخزانة ووزارة المالية..كل هذه الأدبيات تكشف عن تغلغل ثقافة الفردية في مجتمعاتنا، وأننا لا نرى الحل إلا من خلال حاكم عادل مستبد..

إن الإسلام يفرض علينا أن نعدل حتى مع أعدائنا، وإننا ملزمون بالاعتراف للغرب بأنه سبقنا في هذا العصر بتعزيز آليات الحكم الجماعي والمحاسبة، وخير ما فعله في هذا المضمار أنه نزع الحكم من الأفراد، فالحاكم مهما علا قدره لا يزيد دوره عن موظف يؤدي وظيفته في خدمة شعبه بضع سنين، وإذا أخطأ فالمعارضة له بالمرصاد..
ربما نسمح في بلادنا العربية لوجود معارضة بصلاحيات محدودة، ولكن لا يزيد دورها عن ديكور تجميلي للأنظمة المستبدة التي تضع لها سقفاً يحظر تجاوزه، وبذلك تفقد مضمونها فالمعارضة الفاعلة هي التي تذهب إلى آخر مدىً في معارضتها السلمية للحاكم، وليس من حقه أن يمنعها، بل يكون من حقها الوصول للحكم بدلاً منه، لا أن تكون معارضتها منةً من الحاكم، لأن الديمقراطية التي تعطى بقرار فوقي تنزع بقرار فوقي أيضاً، بل تكون نابعةً من إدراك بتساوي الحقوق العامة بين المعارضة والحكومة.
حين تتعزز ثقافة الشورى وآليات الحكم الجماعي في بلادنا فإنه لن يهم كثيراً أن يكون الحاكم ربانياً أو شيطانياً لأنه سيكون مقيداً بآليات صارمة تحاسبه على كل خطوة يخطوها، ومعارضة تترصد له كل حركة وسكنة، وإذا لم يثبت كفاءته في موقعه، فإن عليه أن يغادره ويخليه لمن بعده..

إن وجود حاكم متواضع الكفاءة في نظام ديمقراطي خير من وجود حاكم مثالي في نظام فردي، لأن الأول سيعوض نقصه توزيع السلطات ووجود آليات المحاسبة والتدقيق التي ستقيله بعد ذلك إن لم يؤد أمانته، أما الثاني فإن استفراده في الحكم سيدفعه غالباً إلى التقصير في أداء مهمته، واتباع أهوائه البشرية فيقرب من يحب ويبعد من يبغض دون اعتبار للمصلحة العامة، وبذلك يسير بالبلاد نحو طريق الهاوية..

في بلادنا العربية نبرر قمع المعارضة بالتشكيك في مقاصدها أو المزاودة عليها بالتاريخ النضالي وخدمة الوطن، وهذا ليس إلا نتيجة جهل سياسي، لأن ما يهمنا هو الظاهر، فإذا كان احتجاجها في محله فإننا نستفيد منه في معالجة الخطأ وتدارك موطن القصور، وإن لم يكن في محله، رددنا على الكلمة بالكلمة وأوضحنا موقفنا للرأي العام بالحجة والبرهان..
إننا بحاجة ملحة إلى تعزيز ثقافة المعارضة في بلادنا العربية والسماح لكل ذي رأي بالتعبير عن رأيه بحرية مهما بدا ذلك الرأي سخيفاً أو لا يستحق المناقشة، لأن إيجاد أجواء من النقاش الحر تحت الشمس هو الذي يقضي على الأفكار الفاسدة، أما القمع والملاحقة فإنه سيوجد جواً غير صحي تفرخ فيه الأفكار المنحرفة التي ستنتج العنف والتطرف..

إن الوطن ليس ملكيةً خاصةً لفرد أو حزب، ولكنه السفينة التي يركبها الجميع، وحين يخرقه أحدهم فإن الجميع مهدد بالغرق.لذا فمن حق الجميع أن يدلي بدلوه وفق ما يراه صواباً وخيراً للمجتمع.

والله أعلى وأعلم..

كاتب من فلسطين

[email protected]