في تصريحات له لصحيفة هآرتس العبرية بتاريخ (27-7-2010) قال وزير الحرب الصهيوني إيهود باراك إن هناك ضرورة ملحة للاحتلال للموافقة على حل الدولتين وتنفيذه قبل أن يفوت الأوان، لأنه فيما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط يعيش 11 مليون فرد، إذا كان هناك دولة سيادية واحدة فقط تسمى إسرائيل وتسيطر على المنطقة، فستصبح لا محالة غير يهودية أو غير ديمقراطية.
وواصل باراك تحذيراته قائلاً إنه يجب علينا أن نكون قادرين على رسم حد داخل ما أسماها أرض إسرائيل بطريقة قائمة على الأمن والاعتبارات الديموغرافية، حيث يكون على الجانب الداخلي هناك أغلبية يهودية صلبة لأجيال قادمة، وعلى الجانب الآخر توجد دولة فلسطينية منزوعة السلاح لكن مستقلة وقابلة للحياة على الصعيد الاقتصادي والسياسي.
هذه الأقوال ليست الأولى في هذا الاتجاه وقد سبقتها تصريحات مشابهة كثيرة من شخصيات وازنة في كيان الاحتلال مثل رئيسهم شمعون بيريس، كما كان هناك تصريح لرئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت بأن الدولة الفلسطينية في صالح دولة إسرائيل وشعب إسرائيل.
بل حتى أفيغدور ليبرمان الذي يمثل اليمين المتطرف أبدى عدم معارضته لإقامة دولة فلسطينية.
لا شك أن الدولة الفلسطينية من المنظور الصهيوني ليست ذلك النمط الذي نعرفه من الدول المستقلة صاحبة السيادة، وهم لن يقبلوا بإقامتها إلا بعد تفريغها من محتوى الدولة وتجريدها من عناصر الحياة، ولكن أياً كان الأمر فإن المصلحة الصهيونية هي في إقامة شئ اسمه دولة فلسطينية، وهذا ما تكشف عنه تصريحات قادتهم.
وكما يتضح من التصريحات فإن الصهاينة يطرحون خيار الدولة الفلسطينية للهروب من هاجس انهيار كيانهم من الداخل بفعل التكاثر الطبيعي الفلسطيني وزيادة تكلفة الاحتلال أخلاقياً وسياسياً واقتصادياً.
إن إقامة دولة فلسطينية شكلية وعلى أقل من 15% من أرض فلسطين التاريخية فيه مصلحة استراتيجية لكيان الاحتلال. لما يمثله ذلك من إنهاء للصراع المزمن المستمر منذ عقود. والسماح للكيان الصهيوني بالاندماج الطبيعي في المنطقة، والتخلص من الحرج الأخلاقي والسياسي الذي يشعر به في العالم في ظل بقاء صورته كياناً محتلاً يمارس الجرائم والتمييز العنصري، وكذلك التخلص من أعباء الديموغرافيا التي تهدد الأغلبية اليهودية على أرض فلسطين، كما أنه سيقضي على إمكانية عودة الفلسطينيين إلى ديارهم التي أخرجوا منها سنة 1948 وسيصبح الحديث عن عودتهم إلى الدولة الفلسطينية المقامة على جزء من الأراضي المحتلة عام 1967.
هذا عدا عن التخلص من الأعباء الاقتصادية والأمنية التي تثقل كاهل الاحتلال مع بقاء الأوضاع على ما هي عليه الآن.
كل هذه الفوائد سيحققها الاحتلال في مقابل السماح بإقامة ما يسمى دولة فلسطينية هي في حقيقتها أقرب ما تكون إلى معزل عرقي مشابه للمعازل العرقية التي كان يقيمها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا للأفارقة السود، بفارق أن هذا المعزل في فلسطين سينال اعترافاً عالمياً على أنه دولة..
ومن هنا نفهم العجلة الصهيونية ومن ورائها الأمريكية في الدعوة إلى مفاوضات الوضع النهائي لوضع حد لهذا الصداع المزمن بإقرار تسوية ظالمة لا ترجع للفلسطينيين حقوقهم وتكون الغلبة فيها للكيان الصهيوني..
لكن المؤسف في ضوء هذه الحقائق أن تكون غاية المنى عند العرب والفلسطينيين على اختلاف أطيافهم السياسية هو إقامة تلك الدولة المجردة من المقومات.
إن إقامة دولة فلسطينية يكرس النظام الصهيوني العنصري في فلسطين بدل مواجهته، فهو يمنح الصهاينة ما يزيد عن 82% من أرض فلسطين التاريخية، ويقر بشرعيتها كدولة يهودية نقية ويصير من حقها جلب ملايين آخرين للاستيطان فيها، بينما يلغي حق أكثر من عشرة ملايين لاجئ فلسطيني بالعودة إليها، بل إنه يعطي الاحتلال غطاءً لتهجير مليون ونصف مليون من فلسطينيي الداخل إلى الدولة الفلسطينية المجاورة.
ومن هنا فإن المطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية ليس من مصلحة الفلسطينيين في شئ، حتى وإن كانت تلقى تأييداً دولياً فالمجتمع الدولي لا يعمل بالضرورة انطلاقاً من مصالحنا بل إن تحركاته غالباًُ ما تهدف إلى تصفية حقوقنا ومناصرة الكيان الصهيوني علينا.
ومشكلة المطالبين بإقامة الدولة الفلسطينية أنهم يقلبون سلم الأولويات، فيقدمون الشكليات الفارغة من المضمون ويؤخرون القضية الأساسية.والقضية الأساسية تتمثل في التحرير والعودة والاستقلال. أما الدولة فهي تحصيل حاصل تأتي في نهاية المطاف بعد الإنجاز على أرض الواقع.
إن واجب المرحلة على الشعب الفلسطيني بكافة قواه الحية هو حشد الطاقات في مقاومة شعبية شاملة تعيد الوجه الإنساني المشرق للقضية الفلسطينية ويكون محور النضال فيها هو المطالبة بالحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني التي كفلتها شريعة السماء وقوانين الأرض من عودة وإنهاء احتلال ومساواة إنسانية، وحين ينادي الفلسطينيون بإعطائهم نفس الحقوق الإنسانية التي يتمتع بها الصهاينة في أرض فلسطين واعتبارهم مواطنين متساوين في دولة واحدة- وهو الأمر الذي يتخوف منه باراك في تصريحاته سابقة الذكر- فإن في ذلك إحراجاً للكيان، وحشداً للتضامن الإنساني مع عدالة القضية الفلسطينية، وفي حال رفض الاحتلال الإقرار بتساوي الحقوق بين الفلسطينيين والصهاينة فإنه بذلك سيعزز أوجه الشبه بينه وبين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وسيتعمق مأزقه. وتزداد عزلته الدولية في طريق انهياره بالكامل من الداخل وما ذلك على الله بعزيز.
أما السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي فإنها تقوم بدور تدميري تجاه القضية الفلسطينية، إذ أنها تبرز وكأن هناك طرفان متساويان يتحاوران، وكلما زادت وتيرة الضغط الدولي على الاحتلال فإنه يلجأ للتفاوض معها ليقول للعالم هاهم أصحاب القضية أنفسهم يجلسون معنا.
لذا يحسن الفلسطينيون صنعاً لو فكروا في حل هذه السلطة وبذلك يعيدوا المعركة إلى مسارها الطبيعي كمعركة تحرر يخوضها شعب محتل في مواجهة قوة غاشمة معتدية، ويلقوا بالكتلة البشرية الضخمة في الضفة وغزة في وجه الاحتلال ليتحمل المسئولية القانونية والأخلاقية عنها، بدل إعفائه من هذه المسئولية بالقبول بحل الدولة الفلسطينية المشوهة.
إن طرح مثل هذه الحلول هو الذي يوجع كيان الاحتلال ويسبب له مزيداً من المغص المزمن في أحشائه، ويخرجه من المربع المريح له إلى دائرة القلاقل والزلازل، لأن هذه السيناريوهات تمثل بديلاً مرعباً للكيان قد تفجر النظام الصهيوني من الداخل كما فعل بأشياعه من قبل في نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي.
والفلسطينيون لا خشية عليهم من الاندماج في دولة واحدة تضم الجميع، ففلسطين هي الأرض التي بارك الله فيها للعالمين وليس للمسلمين وحدهم، والفلسطينيون هم الذين سينتصرون ديموغرافياً في غضون العقود القليلة القادمة وسيعود الوجه العربي الفلسطيني الحضاري لهذه الأرض المقدسة التي تأبى قداستها إلا أن تلفظ الخبث مهما طال الزمان..
إننا بحاجة إلى وقفة جاد مع الذات لمراجعتها، ومراجعة خطابنا السياسي.
والله أعلى وأعلم
-كاتب من فلسطين
[email protected]