تكاد تنحصر مواقف من أرخوا لانقلاب يوليو 1952 في اتجاهين، أولهما من يمجدها ويعتبرها ثورة خلصت مصر من ملكية فاسدة وإقطاع ورأسمالية مستغلة، ووضعتها في طليعة الدول المقاومة للاستعمار والصهيونية، والساعية نحو تحقيق العدالة الاجتماعية عبر التطبيق الاشتراكي، والثاني يهيل عليها التراب، معتبراً إياها كارثة هبطت من السماء كما لو جرم سماوي، سقط على مسيرة مصر نحو الحداثة والديموقراطية.. الاتجاه المناصر للثورة أو المنتصر لها ينسبها للشعب المصري، وإن كان أبناؤه الضباط هم من تولوا عنه مهمة تحقيق أحلامه وطموحه، بينما الاتجاه المعادي والمحقر لها يعتبرها أمراً خارجياً محضاً فرضته بنادق العسكر ودباباتهم، لينحصر النقاش أو الجدل بعد ذلك حول ما يعتبره الفريق الأول إنجازات الثورة، وهو تقريباً ذات ما يعتبره الفريق الثاني جرائمها التي لا تغتفر في حق مصر شعباً ودولة، ويرجعون إلى ما أحدثته من تدمير، ما نرزح فيه حتى الآن من تخلف وتعثر في جميع ميادين الحياة المصرية.
إذا كان كاتب هذه السطور ndash;على الأقل- يتفق مع أصحاب الفريق الثاني في تقييمهم السلبي لانقلاب يوليو، فإنه من غير المنطقي الاقتناع بالنظر لهذا الانقلاب كحدث طارئ مقحم على المسيرة المصرية، فلو كان الأمر بالفعل كذلك، لكان كما لو جملة اعتراضية خارجة على السياق، سرعان ما تذهب الريح بكلماتها، أو سرعان ما يشفى الجسد المصري مما أحدثته فيه من جروح، رغم حقيقة سهولة الهدم وصعوبة إعادة البناء.. لكن بنظرة بانورامية على الساحة المصرية الآن، وبعد أربعة عقود من نهاية الفترة الانقلابية التي استمرت ثمانية عشر عاماً، بموت قائدها محسوراً مقهوراً، ليخلفه من حرص على السير تماماً في عكس الاتجاهات التي سار فيها خلفه، سواء سياسياً أو اقتصادياً.. سنجد أن الهيكل الأساسي للأحوال المصرية يكاد يكون على حاله في العهد الذهبي للانقلاب، رغم المجهودات الخارقة للتغيير والتحديث، ورغم فرض التطور العالمي لأشكال جديدة من العلاقات.
نجد الحزب الوطني الحاكم هو ذات النسخة السابق طباعتها في العهد اليوليوي، بداية من النموذج الذي سمي وقتها هيئة التحرير، ثم الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي، ثم سمي في عصر السادات حزب مصر قبل أن يقرر استبداله بالحزب الوطني الديموقراطي.. كلها تسميات لذات التكوين الواحد، من قائد متحكم بقبضة من حديد، وحوله منتفعون وانتهازيون، وتكنوقراط مسخرون لتنفيذ ما يملى عليهم من توجهات.
نجد بالساحة الشعبية الآن الإخوان المسلمين، يلعبون مع الحاكم لعبة القط والفأر، بذات القواعد التي لعب بها معهم مغامروا يوليو، الذين انتموا فكرياً وتنظيمياً للجماعة، وأقسموا على المصحف والمسدس على الولاء لها، لتبدأ بعد نجاح الانقلاب لعبة الصراع على السلطة بين الفريقين.. العسكر أرادوا السلطة خالصة لهم، وأرادوا من الإخوان لعب دور الكومبارس المساند والمدعم، وأرادها الإخوان لهم في جوهرها، ليلعب العسكر دور البيادق التي يحركونها على رقعة الشطرنج كيفما شاءوا.. مازالت ذات قواعد اللعبة هي المتحكمة في الساحة المصرية حتى اليوم، رغم التفاوت الظاهري في أحوال الحكم وأحوال الجماعة الجهادية الدينية خلال العهود الثلاثة.. فحرارة المواجهات أو سخونتها، كذا تشدد مواقف كلا الطرفين وتقدمها أو تقهقرها، لا يغير من حقيقة واحدية اللعبة وقواعدها.. فإبان نجاح الانقلاب كانت جماعة الإخوان المسلمين في عنفوان مجدها من حيث التنظيم والفاعلية، بعد نجاحها في هز الحياة السياسية بما قامت به من اغتيالات وحرق للقاهرة، ونجاحها في تجنيد شباب بزعم مقاومة الاحتلال على خط القنال، ثم انضمام مغامري الجيش إليها، ما كان كفيلاً بتصور قادتها وكوادرها بأنهم أصحاب الانقلاب وسادته، فكان اندفاعهم للمواجهة الدموية مع القائد الذي تصوروه مجرد عضو عاق في جماعتهم، لا يستحق ما هو أقل من التصفية الجسدية، فكان حادث إطلاق النار الفاشل على عبد الناصر في المنشية بعد عامين من الانقلاب عام 1954، ثم كانت محاولتهم الثانية لعمل انقلاب على نظام الحكم عام 1965، رغم ما واجهوا من عنف وتنكيل عقب محاولة الاغتيال.. في هذه المرحلة كان الإخوان المسلمون لاعباً أساسياً في الساحة، حتى لو كان دورهم هو دور الحاضر الغائب، ناهيك عن بقاء عناصر من الانقلابيين الباقين في السلطة وفيَّة لفكرهم، بغض النظر عن الانتماء التنظيمي، مثل كمال الدين حسين وحسين الشافعي وغيرهم كثيرون.. في مرحلة السادات تم استدعاء الغائب من السجون ليكون حاضراً، لتستمر بين القابض على السطلة وبين الجماعة ذات اللعبة، ويستمر الصراع بذات القواعد، مع اختلافات شكلية في المواقف وسخونة المواجهات، التي انتهت هذه المرة بنجاح الجماعة أو فروع مشتقة منها، في إنجاز ما فشلت فيه عام 1954، فكان اغتيال السادات عام 1981.. نأتي إلى المرحلة الثالثة من عمر الانقلاب اليوليوي، لنشهد خلال العقود الثلاثة الماضية ذات اللعبة وبذات القواعد أيضاً، وإن كانت بأقل حدة وأكثر مرونة وشياكة بما يتناسب مع العصر، بين ما يسمى حزب وطني حاكم، وما تسمى جماعة محظورة.. لو تأملنا قليلاً ما يحدث منذ يوليو من نشاط وفعالية لجماعة الإخوان وعلاقتها بباقي التيارات والقوى بالساحة المصرية، ثم قارناها بالحال قبيل الانقلاب، سنجد أن مراحل ما بعد الانقلاب الثلاثة، لم تكن غير امتداد لذات اللعبة التي كانت جارية قبيل الانقلاب مباشرة، والتي كانت فيها الجماعة تلعب ذات لعبة التحالف والعداء مع الملك، وتمارس العنف في الساحة استعراضاً وتأكيداً لدورها المحوري، ويمارس الملك أيضاً العنف معها، إلى حد ترجيح قيامه باغتيال مؤسسها.. يجرنا هذا التحليل إن صح إلى نتيجة نظنها خطيرة، وهي أن ما اعتبرناه ثلاث حلقات أو مراحل سياسية منذ انقلاب يوليو، هي في الحقيقة تجليات أو تطورات لمرحلة أولى هي مرحلة ما قبل الانقلاب، لنكون أمام أربع مراحل وليس ثلاث، ليكون انقلاب يوليو هكذا ليس حادث انقلاب طارئ في المسيرة المصرية، يجوز أن ننسب له كل ما نعاني الآن من بلايا، وإنما هو بالفعل كما يدعي مناصروه، كان تحقيقاً لما ترهص به الساحة المصرية، وما المغامرون العسكر إلا أبناء بررة للأمة المصرية، التي انتكست عن مسيرتها الليبرالية التي بدأت مع الوفد عام 1919، ذلك الحزب الذي كان بالفعل ممثلاً للصفوة المصرية من إقطاعيين ورأسماليين، استطاعوا لفترة أن يجندوا الفلاحين والعاملين في إقطاعياتهم ومصانعهم ليساندوا تيارهم الليبرالي، إلى أن أنجبت القاعدة الشعبية من هو أقدر على تمثيل وتجسيد روحها، لينشئ حسن البنا عام 1928 جماعة الإخوان المسلمين، لتمضي من يومها وحتى الآن في طريقها، تزداد شعبيتها وقوتها يوماً بعد يوم، رغم ما واجهت عبر مختلف العصور من تحديات.
حين أرى الآن توارد وتهافت رموز المعارضة ودعاة التغيير على الاحتماء بالإخوان وخطب ودهم، بداية من البرادعي الذي اعتبره آلاف الشباب هو القائد المنقذ من الاستبداد والفساد، إلى سائر رموز المعارضة وقادة الأحزاب الكرتونية.. وأرى حزب الوفد الجديد يفتتح لنفسه دكانة إخوان مسلمين خاصة به، ويضم إليها رموزاً تقنع الجماهير المصرية أن فكر الإخوان قد تم خصخصته وافتتاح فرع جديد له بالحزب العريق، ولم يعد هذا الفكر حكراً على تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، لتضاف الدكانة الجديدة إلى ما سبقها من دكاكين في العديد من الأحزاب وفي مقدمتها الحزب الوطني وسائر مؤسسات الدولة.. حين أرى كل هذا أجدني أقول quot;ما أشبه اليوم بالبارحةquot;، حين انضم مغامرو العسكر المتذمرين على الملك ونظامه السياسي إلى ذات الجماعة، والتحفوا بها في مسيرتهم نحو السلطة!!.. هكذا أيضاً لا أجد مفراً من ترديد مقولة الفنان quot;محمود ياسينquot; للفنانة quot;مديحة كاملquot; في فيلم quot;الصعود إلى الهاويةquot;: quot;هي دي مصر ياعبلةquot;!!.. فهذه هي بالفعل مصر، وهذ هي بالفعل مسيرة شعبها ومصيره، صعود أو هبوط إلى الهاوية!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات