الأرجح أنه التعجل الإنساني في الوصول إلى نتائج، وبحث الممسكين بزمام الأمور عن تحقيق إنجازات شخصية، هو ما يدخل المشكلة الفلسطينية في سلسلة ممتدة الحلقات، أو في دائرة لانهائية من البحث عن حل يعقبه فشل وإحباط، لنعود بعد وقت طال أو قصر إلى محاولة جديدة، نعلم جميعاً أن لا حظ لها أفضل مما سبقها من حلقات.. هل يحتاج الأمر منا لتشبيهات، لتقريب الصورة من ذهن إدارات دول عظمى وصغرى، تساندها افتراضاً مراكز أبحاث ذات عنوانين فخمة وضخمة؟
ألا يشبه ما نشهده من محاولات تحمل عناوين حل المشكلة الفلسطينية، وتحقيق السلام الشامل بين طرفيها، كما لو أننا نسعى لجني ثمار من أرض لم تحرث ولم تبذر فيها بذور، ولم ترو وتسمد ويعتنى بغروسها، ولم تنق من الأشواك والفطريات والعوالق؟
أليس هذا الإصرار العجيب من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، على القفز إلى غصب الواقع على إنتاج ما هو غير مؤهل لإنتاجه، هو إهدار للوقت والجهد، ودوام للحالة البائسة التي يرزح فيها الشعب الفلسطيني، ناهيك عما يلحق بجميع الشعوب المجاورة وغير المجاورة من أذى؟!!.. أليس هذا مضاداً لكل منطق، وكل منهج علمي للمقاربة وحل للإشكاليات؟.. أو ليست غيبوبة أن نذهب quot;بربطة المعلمquot; كما يقولون إلى جولات محادثات مباشرة وغير مباشرة، مكتفين بالتوزع بين متفائلين ومتشائمين، وإلى بين بين في تفاؤل حذر؟.. أليس كل هذا مضحك أو بالأحرى مبك؟!!
علي أن أعترف بأنني أشعر بالخجل، وأنا مقدم على إعطاء دروس في التناول العلمي للأمور، لمن من المفترض أنهم يعطون أمثالنا الدروس!!.. فقبل الحديث أو مجرد التفكير في حل المشكلة (أي مشكلة)، لابد وأن نكون قد اجتزنا بنجاح مرحلة quot;إدارة المشكلةquot;، إذ كيف يتصور عاقل أن نتمكن من حل مشكلة، نحن غير متحكمين في عناصرها، ولم نتمكن بالتالي من ترتيبها على الوجه المناسب، وتأسيس علاقات مغايرة وجديدة بين عناصرها، ليتبقى الولوج إلى مرحلة فض الاشتباك، وحسم المتعلقات النهائية، استناداً إلى واقع مؤهل لتقبل ما نهدف إليه في الصورة النهائية؟!
الواقع في الأراضي التي يدور حولها النقاش، وهي المحتلة عام 1967 تحتاج إلى ترتيب يسمح لها بتقبل الحل التاريخي الذي نصبو إليه.. والعلاقات بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، من غير المنطقي أن تنتقل فجأة من تبادل القتل وحملات الكراهية، إلى تبادل الأحضان والقبلات.
علينا أن نتحلى بالصبر المدعم بالإخلاص الحقيقي لتحقيق الهدف وهو السلام.. فعملية إدارة الأزمة تجري بالفعل في الضفة الغربية، بمساعدة السلطة الفلسطينية على تأسيس كيان حقيقي على أرض الواقع لدولة فلسطينية، وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، تضع الشعب الفلسطيني ولو على بداية طريق حياة إنسانية، تجعل حب الحياة والأمل فيها أمراً محتملاً ووارداً وفق ما توحي به دلائل الواقع المعاش، وليس مجرد وعود لا تقوى على مواجهة دعوات الموت والكراهية الرائجة في المنطقة عموماً، وفي الشعب الفلسطيني على وجه الخصوص.. يحتاج الأمر أن نعطي أبو مازن وصحبه فرصة لاستكمال ما يقومون به، وأن نضاعف من دعمنا ومساندتنا لهم مادياً ومعنوياً، لكي نغير واقع حال سكان الضفة الغربية، حتى نصل إلى وضع يمكن عنده أن تتخلى إسرائيل عن الحواجز بين المدن والبلدات الفلسطينية، والتي أقامتها لاصطياد الإرهابيين والمخربين، ولا نقول أن يتطور الوضع بحيث لا يعود هناك من داع ولا مبرر لجدار الفصل بين الضفة وإسرائيل، والذي فرضه تسلل القتلة الانتحاريين إلى دخل إسرائيل.
يحتاج الأمر أيضاً إلى التيقن من التطهير التام للضفة الغربية من التشكيلات العصابية لمنظمات القتل مثل حماس والجهاد وغيرها، لتسود فيها ولو الحد الأدنى من الحياة الإنسانية الطبيعية.. كما يحتاج الأمر لتطبيق منهج إدارة الأزمة في غزة، أن يتم تخليصها أو استخلاصها من بين أنياب حماس الدامية، ومن الواضح أن هذا لن يحدث، مادمنا جميعاً نقف موقف المتفرج أو الشامت فيما أوقع الغزاويون نفسهم فيه من ورطة أو مأساة.. لن يستطيع الشعب الفلسطيني في غزة أن يخلص نفسه بنفسه، كما أنه من قبيل الضحك على الذقون التظاهر بمحاولة إنقاذ الغزاويين عن طريق مباحثات المصالحة بين حماس والسلطة الشرعية، فجميعنا يعرف أن حماس لن تترك غزة، إلا إذا قام العالم بانتزاعها منها انتزاعاً.. نعرف بالتأكيد أن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لن يتحقق، قبل تحرير الفلسطينيين من سيطرة واحتلال المنظمات الإرهابية كافة، وبعد مد سيطرة السلطة الفلسطينية الشرعية إلى جميع مناحي الحياة والبقاع الفلسطينية.
هي خطوة خطيرة ومريرة لا مهرب منها، أن ننقذ أهل غزة من حصار حماس وإسرائيل معاً.. خطوة مكلفة هي بلاشك، لكنها الأجدر بالبحث الآن، وليس الجلوس على موائد البحث عن المستحيل بمفاوضات عبثية مباشرة أو غير مباشرة.. علينا أن نواجه كمجتمع دولي مسئوليتنا، كما واجهناها في عراق صدام، وتم تحرير الشعب العراقي من حكم البعث الرهيب، وكما نفعل الآن في أفغانستان.. الغزاويون أشد من كل هؤلاء الآن احتياجاً لمن يخلصهم، لكن من يفعلها؟.. لن تقدم إسرائيل على هذه الخدمة الجليلة بالتأكيد، فالتخطيط الإسرائيلي في عهد شارون، هو الذي أدى بغزة إلى هذا المصير، الذي كان واضحاً ومتوقعاً من الجميع.. يحتاج الأمر إلى تحالف دولي مصغر، كذاك الذي أنقذ الكويت من براثن صدام حسين.. تحالف تكون على رأسه قوات إسلامية وعربية، ومدعوم بقوات وسيطرة غربية.. أتصور أن المهمة أسهل كثيراً مما يتخيل المتخوفون، فستجد قوات الإنقاذ هذه من أهل غزة العون الجدي، الكفيل بسقوط حماس كأوراق الخريف!!
قبل النجاح في إدارة المشكلة الفلسطينية، وتمهيد الأرض والناس لتقبل السلام، سيكون من العبث والتهريج الحديث عن مفاوضات سلام.. لا نحتاج لأكثر من الإخلاص والجدية، وقليل من الصبر والمثابرة، وإلا لن نخرج أبداً من تلك الدائرة الجهنمية المفرغة!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]