ليس صحيحاً ما نحب أن ندعيه أو نتصوره، أن القضية الفلسطينية هي أزمة المنطقة الأساسية، وكل ما عدا ذلك من مشاكل هي فروع أو نتائج ترتبت عليها، وكأنها هي بحيرة الأزمات، التي تنبع منها أنهار الإشكاليات، المتجهة إلى سائر مساحة الشرق الأوسط، بحيث أنه إذا ما تم تجفيف تلك البحيرة، بمعنى حل القضية الفلسطينية، وفق الحل الذي نتصوره نحن عادلاً، فإن كافة الأزمات التي تعصف بالمنطقة، وتهدد السلام العالمي أيضاً، سوف تكف أو تجف تلقائياً وبالتبعية.. العكس تماماً هو الصحيح، فالقضية الفلسطينية لم تصل إلى هذا المصير كأزمة أبدية تستعصي على الحل طوال كل تلك العقود، إلا لأنها تحولت إلى مصب لمصارف (ولا نقول أنهار) الأزمات والإشكاليات المستعصية لكل الشعوب المحيطة بها، بل ووجدت من يوسع دائرة استيراد أو امتصاص الإشكاليات عبر دائرة أوسع، هي ما نطلق عليه الأمة الإسلامية الغارقة في المشاكل والتناقضات، وخير مثال لنا هبوط إيران على فلسطين تحت مظلة التأسلم، لتجعل من الشعب الفلسطيني رهينة ووقوداً لصراعها مع العالم.. هكذا يكون مقدراً لقضية فلسطين أن تكون آخر إشكالية يتم حلها، فالحل الناجع الذي يرضى عنه وبه العالم، ويتوافق مع العصر وقيمه ومعاييره، لن يكون متاحاً وقابلاً للتطبيق، ما لم تشف المنطقة وشعوبها، مما يفتك بها من أمراض ثقافية ونفسية وسياسية واجتماعية.. عندها، وعندها فقط، سوف لا نجد لاستمرار تلك القضية الأزلية من معنى أو مبرر، وربما في هذه الحالة سيتاح للأحفاد أن يسخروا من حماقة الأجداد، كما نسخر نحن من حماقة أهالي جزيرتي quot;ليليبوت وبيليفسكوquot; في رواية quot;رحلات جاليفرquot; للروائي الإنجليزي الساخر quot;جوناثان سويفتquot; (1667- 1745م)، والذين تقاتلوا لخلافهم على كسر البيضة من جانبها الكبير أم الصغير!!
بهذا ولهذا صارت فلسطين وقضيتها نموذجاً يجسد كل أدواء أو بلايا المنطقة وشعوبها، بحيث تمكننا دراستها، من التعرف على أغلب إشكاليات المنطقة المستعصية على المعالجة والعلاج.
واحدة من أهم تلك البلايا والإشكاليات العربية أو الشرق أوسطية، والمتجسدة فيمن نسميهم المناضلين والمجاهدين من أجل حل عادل للقضية الفلسطينة، هي بلية أو إشكاليه اختلاط وتصادم وتصارع المرجعيات، التي يستند إليها فرقاء عديدون في رؤيتهم للعالم ولقضية بلادهم، وهو ذاته الاختلاط الحادث في جميع بلاد ما يعرف بالشرق الكبير.
المرجعيات التي نعنيها تمثل القاعدة التي ينطلق منها الأفراد والشعوب، في سعيهم لتحقيق أهدافهم وطموحاتهم بعيدة وقصيرة المدى.. وهي أيضاً الهدف الذي يتجهون نحوه، والمعيار الذي يقيسون عليه ما تحقق من فشل أو نجاح.. ورغم أن الواقع العملي يخبرنا أن المرجعيات تختلف وتتنوع، بل وتتعدد بتعدد البشر، بغض النظر عما يقال في العلن، وما يرفع من لافتات وشعارت، إلا أننا نستطيع على سبيل البحث والتحليل، أن نقول بدرجة لا بأس بها من الدقة، أن هناك بمنطقنا ثلاث مرجعيات أساسية، يشكل اختلاطها وتصادمها جزءاً هاماً مما نشهده حالياً من حراك، يصل في بعض الأماكن والأحيان إلى درجة الغليان أو الانفجار.. وهي مرتبة حسب أكثرها أهمية ورواجاً كما يلي:
أول المرجعيات وأكثرها رواجاً في العقود القليلة الماضية هي المرجعية الدينية، وتطبيقها على حالة المشكلة الفلسطينية، حولها من قضية شعب فقد وطنه، جراء إزاحته لتكوين وطن قومي لليهود، إلى قضية صراع وملاحقة المؤمنين، لليهود أعداء الله وأحفاد القردة والخنازير.. ويعني هذا حسب ما يؤمن به الأتقياء، أن هذا الصراع يجب أن يمتد إلى يوم القيامة، حين يتاح اجتثاث جميع اليهود من على وجه الأرض، في هولوكوست مقدس وشامل هذه المرة.. بموجب تلك المرجعية أيضاً تم تجاهل البؤس الذي يرزح فيه الإنسان الفلسطيني، أو على الأقل تراجع الاهتمام به إلى مرتبة متأخرة، لتصبح القضية قضية تحرير المسجد الأقصى، وتحرير كامل فلسطين من النهر إلى البحر، ليس من أجل حياة أفضل لشعب يعاني الحياة ولا يعيشها، ولكن لمجرد أنها وقف إسلامي.. هكذا تطلق الصيحات لاستنفار كافة مسلمي العالم، لإنقاذ الأقصى والإسلام مما يحيق بهم من مخاطر، تم اختراعها خصيصاً لهدف سام ومقدس، هو تحفيز المؤمنين ودفعهم للجهاد في سبيل الله.. هذا هو الخطاب المعلن بالطبع، والذي يتم ترويجه وتسويقه للجماهير، بغض النظر عن الأهداف الحقيقية لمن يطلقون تلك الشعارات، ومن يدفعون الأمر نحو صراع بلا نهاية، يستفيد منه المستفيدون، ويرتزق المرتزقون.
المرجعية الثانية يمكن تسميتها بالمرجعية المثالية، ذلك أنها تعتمد على العقل المجرد، لتأسيس رؤى طوباوية مفارقة للواقع، وسندها هو عبقرية من يولفون ويؤلفون تلك الأفكار، ويعملون بعد ذلك على قصر وغصب الواقع ليتطابق معها، غير مكترثين ولا ملتفتين لمدى توافر المقومات المادية، اللازمة لتحويل حلمهم المحلق إلى واقع.. تلعب دعوة العروبة في حالتنا هذه دور تلك الأفكار المثالية المفارقة.. وهي بالطبع لا تقبل بوجود كيان غريب لقومية أخرى هي اليهودية أو الصهيونية (كما لا تقبل بالكردية ولا بالأمازيغية أو المصرية أو الأفريقية)، لأنها بالطبع ستلعب دور المفجر لصخرة العروبة، التي يريدونها صماء خالية من أي شوائب.. تقتضي المثالية العروبية أيضاً -كما أراد لها أصحابها- أن تكون هي النقيض والعدو للقوى العالمية، التي قرر كهنة العروبة، أن يسندوا إليها لعب دور الشيطان، مقابل ملائكية العروبة أو ألوهيتها، ليطغى العداء لهذا الآخر الإمبريالي الموالي للصهيونية، على التناقضات الأساسية العديدة في هيكل العروبة الكرتوني.. وقد تتحول مثل تلك الأفكار الطوباوية إلى أيديولوجيا جامدة، مثلما تحولت الماركسية، وأيضاً دعوة العروبة، فتقترب من المرجعية الدينية، من حيث القداسة والثبات الأبدي، غير القابل للتأقلم مع الواقع، ذاك الذي ستعتبره في هذه الحالة رجعية واستسلاماً وانبطاحاً وخيانة وتفريطاً في ثوابت الأمة.. قائمة طويلة هي من التوصيفات التخوينية التكفيرية، يدفع بها الدوجماطيقيون عن أنفسهم تهمة التحجر والحماقة.. وقد تتمتع مجموعة الأفكار الطوباوية بقدر من المرونة، لكنها تبقى بعيدة عن الارتباط العضوي بالواقع، فالواقع عند أصحابها ينظر إليه نظرة دونية، فهو لا يليق بأمثالهم من ذوي العبقرية والميول الانتحارية، خاصة وأنهم لن يقوموا بأنفسهم بعمليات الانتحار، وإنما سيقفون إلى آخر لحظة على رأس روما وهي تحترق!!
المرجعية الثالثة هي أقل المرجعيات انتشاراً وقبولاً لدي النخبة المسيطرة في بلادنا، لأنها تهبط بها من عليائها وتحليقها في عوالم رائعة وخيالية، لتغرسها في طين الأرض ومشاكل البؤساء التي لا حصر لها، وهذا بالطبع وضع غير مريح للمناضلين والأشاوس، الذين أدمنوا لعبة المزايدات السهلة والشيقة في آن.. نستطيع تسمية مرجعيتنا هذه بالمرجعية العملية.. هنا يكون الانطلاق من حقائق الواقع وملابساته وممكناته، وتكون العودة إليه أيضاً، لقياس ما تحقق من نجاحات وإخفاقات، لنعود من جديد لنعدل من توجهاتنا، لتحقيق المزيد من الإنجازات، أو لتقليل من قد يصادفنا من خسائر.. لا مجال وفق هذه المرجعية بالطبع لانتصارات إلهية تدمر فيها بيروت وغزة ويسقط مئات القتلى والجرحى.. فالمعيار سيكون ما يتحقق على أرض الواقع من مكاسب وخسائر، وليس تحقيق رؤى وأحلام أصحاب القداسة وأصحاب العبقريات النضالية، الذين سيعد مجرد وجودهم ولو في الجحور التي يختبئون فيها، بمثابة نصر إلهي ساندتهم فيه الملائكة.. وفق هذه المرجعية العملية ستكون الانتصارات الإنسانية (وليست الإلهية) هي تخفيف معاناة الملايين من الفلسطينيين، الذين وقعوا طوال أكثر من نصف قرن، بين سندان إسرائيل ومطرقة الأشاوس والمجاهدين والتفجيريين، يشردون ويقتلون ويجوعون، فيما الجميع لا يكترثون بأحوالهم إلا عند الحاجة إلى احتفالية لطم الخدود والعويل، كما نشهد الآن من حماس، المرتدية قميص تقرير جولدستون، تلك الاحتفالية التي صارت حماس فجأة بموجبها، حريصة على الدماء الفلسطينية، التي سبق وأن استخدمت أجساد أصحابها كدروع بشرية، تحمي بها مجاهديها، الساعين إلى دخول الجنة، وتحمى قادتها المتطلعين إلى تيار الدولارات الإيرانية المتدفق.. هذا عن احتفالات المزايدة ولطم الخدود، أما التصرفات والتوجهات العملية، فتظل كما هي ملتزمة بثوابت الجهاد، بجلب المزيد من المعاناة والتشريد للشعب الفلسطيني المقموع والمخدوع في آن.. فيما نسمي هذا في شرعنا نحن الأشاوس نضالاً وصموداً، تلك المقولات التي لا يتفوق على خوائها إلا نذالتها ولا إنسانيتها!!
هكذا وفي ظل اختلاط وتصادم تلك المرجعيات الثلاث، لا يمكن لشعوبنا إلا أن تظل تراوح مكانها، بل وتغرق أكثر وأكثر في أوحال من صنعها، وليس من صنع الأعداء المفترضين الذين يتربصون بها، ولا هم لهم في الحياة إلا الكيد لها.. فهل يمكن أن نشهد في القريب نهاية لحالة البلبلة والفشل هذه، أم أن هذا هو قدر شعوب سقطت من عربة التاريخ، ولم يتبق لها إلا التمرغ إلى الأبد في قاع مستنقعاتها الآسنة؟!!
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات