هي لعنة متوطنة في منطقة الشرق، وإن كان الأمر لا يمنع أن تكون فيروساتها قد انتشرت في أكثر من موقع.. يصاب بها كل من الحكام وشعوبهم على حد سواء، ونعني بتلك اللعنة تحديداً، أن يكون لعب دور قيادي إقليمي أو عالمي لدولة ما، هو هدف في حد ذاته، وليس مجرد أمر واقع تفرضه الظروف على دولة ما، في معرض سعيها لتأمين مصالح شعبها وأمنه بالدرجة الأولى، باعتبار هذا الأخير هو الهدف الوحيد الذي ينبغي أن يتوجه له كل شعب وحكومته، وغيره مجرد نتائج ثانوية ومكملة، لا يمكن أن تتعارض، بل ومن المحتم أن تخدم الهدف الأساسي.
كان من الطبيعي أن يتوطن هذا الداء، في محيط دول تتميز بالديكتاتورية وحكم الفرد، فالزعيم التاريخي الضرورة، والبطل الملهم في هذا البلد المتخلف أو ذاك، والذي يقنعه تصفيقنا وركوعنا وهتافنا: quot;بالروح بالدم نفديك يا قرصانquot;، أنه زعيم فوق العادة، وبأنه نصف أو حتى ثلاثة أرباع إله، يقتنع ويقنعنا معه، أن قدراته في الزعامة تتعدى حدود وطنه الذي ينوء بالمشاكل والبلايا، وأنه ونحن معه مكلفون بدور تاريخي مجيد، وقد يكون هذا الزعيم متواضعاً بما يكفي، ليقتنع بدور ريادي إقليمي، فيمد أياديه البيضاء والسوداء إلى دول الجوار، مصدراً لها ما يسميه تارة ثورة، وتارة حركات تحرير، وتارة ثالثة وعياً دينياً، يراه هو الدين والتدين الحقيقي، وكل ما عداه كفر وجاهلية.. وقد تنتفخ أوداج زعيمنا الملهم أكثر، ويتصور لنفسه (وبالتأكيد نحن معه) دوراً تاريخياً عالمياً، يمتد من المحيط الهادي شرقاً، إلى المحيط الهادي أيضاً غرباً.. فعلها من قبل عبد الناصر، فصدر ثورته الرائدة الخالدة إلى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، واستلم راية الزعامة والريادة منه، تلميذه الأكثر تهوساً، والذي امتد نضاله الثوري إلى إسقاط طائرات الركاب، وضخ البترودولار في كل مناطق الاحتقان على سطح الكرة الأرضية، قبل أن يتوب أخيراً وينوب، quot;ويبوس القدم ويبدي الندمquot;، بعد أن حول ليبيا الغنية بثروتها البترولية، إلى موطن للبؤس والعوز، ومازال بالطبع الزعيم الفارسي الأسطورة أحمدي نجاد وولي نعمته خامنئي، يمارسان دورهما الريادي، في تخريب لبنان ثم غزة، ويغازلان البحرين وسائر دول الخليج بأحلام الإمبراطورية الفارسية، والبقية تأتي، فيما الشعب الإيراني يعاني بؤس حياته التي تتردى يوماً فيوماً.
الشعوب المتقدمة والقوية، والتي تحتم عليها انتشار علاقاتها ومصالحها على مستوى العالم، سواء من الناحية الاقتصادية، أو الأمنية العسكرية، أن تلعب دوراً إقليمياً أو عالمياً، خدمة لتلك المصالح.. هذه الشعوب ودولها تعتبر ذلك الدور الخارجي عبئاً ثقيلاً، عليها أن تقوم به، وتدفع ثمنه من ثروتها، وربما من دماء أبنائها، لتأمين مصالحها، أو لدفع غائلة الإرهاب عنها، ونجد فيها من يناقش هذا الدور وجدواه، وتختلف عليه الأحزاب المتنافسة على الحكم، ما بين مهتم بالدور العالمي لبلاده، وبين داعية للتخفف ما أمكن من هذا العبء، والتركيز على ترتيب وتطوير الداخل، ومعالجة إشكالياته واختلالاته، وتحويل أي إنفاق خارجي، لصالح مشاريع تطوير وتنمية داخلية.
أما الشعوب التي تسكن العشوائيات والمقابر، ويلتهم البحر أبناءها، وهم يفرون منها، بحثاً عن لقمة خبز وحياة تليق بإنسان، وتتعثر في الحصول على رغيف الخبز من طوابير المخابز، ويسقط أطفالها في بالوعات المجاري المفتوحة أبداً، أو يمضون النهار في المرح في مياه الصرف الصحي التي تغمر شوارعها، هذه الشعوب تعتبر الدور الريادي جائزة، وعرش مجيد تحتله، ويعوضها الحلم به عن معاناتها الحياة بؤساً وفاقة وعشوائية.. مثل هذه الشعوب المنتفخة كرامتها وتعاظمها الذاتي كبالونة، وقد تربت على ثقافة عمرو بن كلثوم، وتعيش في أوهامها، التي يلخصها قوله:
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرُنا كدراً وطينا
إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
الشعوب المبرمجة على هذه الثقافة، يدفعها أشاوسها لتظاهرات ألفية ومليونية، تطالب زعماءها، إذا ما فُرض وكانوا مصادفة على قدر من التعقل والاتزان، تطالبهم بالتورط في إشكاليات ومعارك خارجية، حتى بغض النظر عما إذا كان ذلك التورط، يمكن أن يحل تلك الإشكاليات، أو سيزيد الطين بلَّة، كما حدث في عام 1967، الذي مازلنا نخوض في مستنقعاته، رغم مرور ما يقرب من نصف قرن.
اذا استثنينا المحاولة الهامشية لفاروق ملك مصر، لتنصيب نفسه خليفة للمسلمين، فإننا يمكن أن نعزي الفضل في توطن فيروس quot;الدور الرياديquot; بمنطقة الشرق الأوسط إلى جمال عبد الناصر، الذي رأى نفسه أكبر من حجم مصر، أو أن مصر تحت قيادته الفذة، يمكن أن تكون كأثينا في العصر اليوناني، أو كروما في العصر الروماني، ورغم ما جرَّه ذلك الدور الريادي على ناصر وبلاده من بلايا، أصابت الرجل في آخر محافلها بأزمة قلبية قضى فيها نحبه، إلا أن تاج الدور الريادي والزعامة كان قد خلب عقول كل المغامرين الذين ينجحون بعد ذلك في القفز على أعناق شعوبهم، وأغراهم بالاستيلاء على ذلك التاج، فوجدنا القذافي بعد سيطرته على دويلة ليبيا وثروتها البترولية، يحولها في خياله، وفي أبواقه الإعلامية، إلى الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الإشتراكية العظمى، وقد صارت بالقطع عظمى بفضل قيادته، وبفضل مليارات البترودولار، التي راح يبعثرها على المغامرين والنصابين والإرهابيين والمرتزقة في كل مكان على سطح الكرة الأرضية.
لقد وصل فيروس الدور الريادي والقيادي الآن إلى حضيض أسفل، فقد صار قادة العصابات، مثل حسن نصر الله وخالد مشعل وأسامه بن لادن والملا عمر وأمثالهم، يتصورون أنهم أيضاً قد صاروا زعماء عالميين، يوجهون الشعوب، ويشيرون على حكامها ماذا يفعلون، وكيف يكونون رجالاً ومخلصين (لزعامة رجال العصابات طبعاً)، لهذا ليس من المستغرب أو المستهجن، أن تحاول إمارة لا يتعدى عدد مواطنيها نصف المليون، من إجمالي مليون نسمة يسعون على أرضها، العائمة فوق البترول والغاز الطبيعي.. أن تحاول تلك الإمارة البترولية العظمى، لمجرد تضخم أرصدتها في البنوك، وامتلاكها لقناة تليفزيونية فضائية، تضم محترفين وخبراء في الإرهاب والتحريض عليه والترويج له، وتستدعي المدلسين والمنافقين من كل حدب وصوب، ومن كل عصر من عصور نكباتنا ونكساتنا الممتدة عبر الزمن، وتقدمهم لنا كخبراء ومحللين ومعلمين، ينبغي علينا أن نجلس بأدب لنتلقى الحكمة من أفواههم، تحرضها تلك الإمكانيات المأساوية، أن تلعب هي الأخرى دوراً ريادياً، وأن تعقد مؤتمرات قمة، يجلس فيها زعماء دول، كتفاً بكتف مع زعماء عصابات، ويختلط الحابل بالنابل، والسياسي بالمهرج بالإرهابي، وتختلط الأمنيات والعنتريات بالرؤى والمواقف السياسية.
هل من سبيل لوقف تفشي فيروس الدور الريادي، الذي يفتك بالساسة والسياسة وبالكيانات العربية، بأشد مما يمكن أن تفتك بها إنفلونزا الطيور والخنازير وربما في المستقبل إنفلونزا الحمير؟!
[email protected]