الجزء الثاني
إذا كنا متفقين أن انتماء الفرد إلى جماعة أمر طبيعي، ومرتبط بطبيعة الإنسان الاجتماعية، وهي الطبيعة التي مكنت الإنسان من تشييد حضارته، التي تميز بها عن سائر الكائنات، التي قد تعيش في جماعات، لكنها لا تعيش في مجتمعات، حيث الاعتماد المتبادل وتقسيم التخصصات، رغم أن مملكة النحل تنتهج ذات النهج، ولم نسمع أن واحدة منها قد ضُرِبت بداء العنصرية.. علينا أن نبحث عن العوامل التي تشوه ذلك الأمر الطبيعي، وتخرج به عن نطاقه الإيجابي والمقبول، لتحوله إلى داء أو لعنة تلحق بالبشر والمجتمعات، فتخرب كل ما ينجح الناس في تشييده من حضارة، وتعوق المضروبين به عن مغادرة عصور الظلمات الغابرة، ليظلوا أسرى التطاحن والاقتتال، والحياة وفق نظم وقيم بادت وتجاوزها الزمن وواقع الأحوال.
يذهب البعض إلى أن الفقر والجهل وضيق العيش، هو الذي يؤدي إلى دفع البشر للتصادم مع بعضهم البعض، ويرون أن الانتماءات العنصرية تلعب دوراً ثانوياً أو مكملاً، وهذا القول بلا شك صحيح جزئياً وإلى حد ما، لكن صحته بالطبع غير مطلقة، فالثراء والعلم أيضاً إذا ما ارتبطا بخواء وانغلاق فكري، وبدوجما ذات طبيعة عدوانية، يمكن أن يكونا دافعاً وداعماً خطيراً للتوجهات العنصرية، وأمامنا هنا كنموذج أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، ونائبه أيمن الظواهري الذي ينتمي إلى عائلة مصرية ثرية، وعديد من أفرادها لهم باع طويل في الطب، وهو ذاته طبيب.. لذا علينا أن نبحث عن الأسباب الخاصة وراء ظاهرة العنصرية، مع عدم تجاهل الأسباب العامة، والتي نجدها في جميع الإشكاليات المتعلقة بالبشر، وأهمها الجانب الاقتصادي، حيث في الأغلب لا يصح إدراج العامل الاقتصادي كسبب، وإنما هو يلعب دائماً دور البيئة المناسبة لنمو ظاهرة ما أو خمودها.. إذ يمكن عن طريق الرفاهية مثلاً التخفيف من حدة الاحتقان العنصري، لكن العنصرية ذاتها لا تكون عندها قد تلاشت، وإنما قد تدخل مرحلة كمون، ريثما تأتي ظروف تهييء لها عوامل الظهور والانتعاش من جديد، وقد يحدث العكس، وتتيح الرفاهية للمتشبعين بالروح العنصرية، الوقت والإمكانيات المادية، لممارسة فعالياتهم العنصرية، ولا نعدم في واقعنا أمثلة على هذه الحالة.
نستطيع مؤقتاً أن نرصد أهم عاملين يدفعان نحو ذلك التحول السلبي لطبيعة الانتماء الإنساني إلى جماعة، الأول هو طبيعة الفكر الذي تتمحور حوله الجماعة، فلو اقتصر هذا الفكر على التركيز على مقولات تشيد منظمومة فكرية تقوم عليها حياة الجماعة، أو تخلق لديها نوعاً من توهم (تمثل) الارتباط العرقي وما يستتبعه من تراحم وتكافل، لكان هذا أقل مدعاة للتحول السلبي، منه في حالة ما لو تضمن ذلك الفكر في بنيانه الأساسي شحنات عدائية نحو الآخر، ففي هذه الحالة قد يتوارى أغلب ما يجمع بين المنتمين إلى مثل هذه الجماعة، ليتصدر خلافهم وعدائهم للآخر أولوياتهم، بل وقد يصير هو هويتهم الأساسية، حتى ليخالوا -وإن لم يدركوا هذا بوضوح- أنه لو انتهت حالة العداء بينهم وبين الآخر المستهدف، لانفرط عقدهم، وتبددت جماعتهم وانتماؤهم، وقد سبق لنا تسمية مثل تلك التجمعات quot;بالتجمعات التفاضليةquot;، وهي التي تعتمد على تقوية الروابط بين أفرادها، عن طريق كراهيتهم المشتركة وتخوفهم من آخر (الذي يتم شيطنته)، يكون وجوده حيوياً لبقاء الجماعة متماسكة، في مقابل quot;التجمعات التكامليةquot;، التي تعتمد في تماسكها على ما يربط بين أفرادها من صلات ومصالح، لدينا هنا نموذج الاتحاد الأوروبي، ومن الطبيعي أن نجد مثل تلك النوعية الأخيرة من التجمعات، منفتحة على الآخر ومتكاملة معه.
العامل الثاني الذي يساهم في تحويل الانتماء إلى صورة سلبية، هو أن الانتماء الطبيعي إلى جماعة، لا ينبغي أن ينفي أو يتجاهل مقومات مشتركة عديدة، بين أفراد تلك الجماعة، وبين سائر البشر، المنتمين أو غير المتنمين إلى دوائر أخرى.. وإلإ فإن ذلك الانتماء يتحول إلى زنزانة خانقة، إذا ما نظر الإنسان إلى العالم من ثقبها الضيق وحده، متجاهلاً ما يربطه بمن يعتبرهم آخر، من روابط إنسانية هائلة التعدد والامتداد.. فكما أن الإنسان الفرد كائن فريد لا يتكرر، إلا أنه يعيش وينمو وسط الآخرين، اعتماداً على مساحة المشترك الواسعة، بين الفرد وباقي المجموع، ويعتبر التقوقع والانكفاء على الذات الفردية، حالة مرضية، تؤدي بمن تصيبه إلى الهلاك.. هذا ذاته يسري على الكيانات الجمعية الاعتبارية، سواء كانت كيانات عرقية أو دينية أو سياسية، فهي إن لم تسع لملء مساحة المشترك بينها وبين باقي الكيانات، فإنها تحكم على نفسها بمعاداة الحياة والبشرية، وتدفع نفسها بنفسها في طريق الانقراض والتبدد.. فالانتماء الطبيعي الذي تحدثنا عنه، لا يعني أن ينسلخ الإنسان عن انتمائه الإنساني، ليحشر نفسه في قالب جامد، هو قالب تلك الجماعة، مجمداً أو لاغياً لكل ما يربطه بسائر البشر الطبيعيين.
المأساة العنصرية في الشرق الأوسط الكبير، ليست مجرد هيمنة جماعات عنصرية مهيمنة وعدوانية، على جماعات وهويات صغرى ضعيفة ومستضعفة.. نعم تُنسب جرائم quot;الحالة العنصريةquot; السائدة في الشرق، إلى الكيانات والتشكيلات العنصرية الأكثر عدداً وقوة، فهي التي تتحمل مسئولية ما نعرفة quot;بالممارسات العنصريةquot;، التي تُضطهد فيها الأقليات، وهي بالتحديد العنصرية المتأسلمة، والعنصرية العروبية، التي تفرض العروبة قسراً على كل الشعوب، التي سبق وأن اكتسحتها الجيوش العربية من أربعة عشر قرناً، عملت حلالها على إبادة وإذلال تلك الشعوب، متعللة بحملها راية الدين الإسلامي تارة، وبالتعريب القسري لتلك الشعوب والحضارات تارة أخرى.. ويصل ذلك الإذلال والاضطهاد في بعض الحالات إلى حد الإبادة الجماعية، كما حدث للأكراد في العهد الصدامي، ولأهل دارفور الآن على يد البطل العروبي المغوار عمر البشير، وكما نتحسب الآن مما يمكن أن يحدث للبهائيين في مصر (ما قد يعد أجراس إنذار للأقباط)، إذا ما استمر تراجع مؤسسات الدولة الرسمية أمام الهجمة العنصرية المتأسلمة، على بضع عشرات من المواطنين البهائيين الأبرياء، والعزل حتى من الحماية الأمنية، التي تحفظ لهم أرواحهم ومقومات حياتهم.
إلا أن quot;الثقافة العنصريةquot; في شرقنا الأوسط، ليست حكراً على الكيانات العنصرية الكبيرة والمهيمنة وحدها، فقد صارت quot;العنصريةquot; -بالمفهوم الذي تناولناه- حالة ثقافية عامة، يغرق ويتساوى فيها الجميع، القوي والضعيف، الظالم والمظلوم.. هذا بالطبع معاكس لما قد يتبادر لذهن مراقب خارجي، يستمع لصراخ الأقليات الضعيفة (مثلما يصدر الآن من بعض ممن يُعرفون بأقباط المهجر)، التي تعاني القهر والتهميش والتمييز، فيتصور أن هؤلاء الذين ذاقوا مرارة quot;العنصريةquot; وجناياتها على الإنسان وحقوقه، لابد وأن يحملوا في جنباتهم توقاً للحرية والعدالة والمساواة، وأنهم صاروا أعداء لمناهج quot;التفكير العنصريquot;، وخلعوا عنهم رداء الانتماء العنصري، ليكون انتماؤهم الأساسي للإنسانية، وللمعايير العالمية لحقوق الإنسان.. لكن النظرة المتعمقة والمتمهلة لواقع الحال، تكشف لنا أن الضارب والمضروب.. القاتل والمقتول، كلاهما ابن ثقافة واحدة وحيدة، هي ثقافة البغضاء والاستعلاء والهيمنة العنصرية، وما الفارق بين الطرفين المتناحرين، إلا ذات الفارق بين المُتَمَكِن والمُتَمَكَن منه، أو بين القوي والضعيف، بحيث لو فُرض وانقلبت موازين القوى فجأة، لرأينا نفس التمثيلية ونفس الممارسات، يقوم فيها هذه المرة المضروب بدور الضارب، والعكس صحيح.. فعلى سبيل المثال، عندما نقرأ أخيراً خبراً يقول، أن quot;مدينة بريان الجزائرية التي شهدت مواجهات طائفية بين أتباع المذهب المالكي والإباضي، تحولت إلى مدينة أشباح، إثر إقفال المحال التجارية أبوابها، استجابة لإضراب التجار المتضررين من أعمال التخريب، وذلك على طول الطريق الوطني رقم واحد، الذي يقسم المدينة إلى جزأين، شرقي إباضي وغربي مالكي.quot;، فإن لنا أن نستنتج أن القضية ليست مجرد رفع يد الظالم القوي عن كاهل المظلوم الضعيف، أو تحصيل حق الأضعف من الأقوى، فالمسألة العنصرية أكثر تعقيداً من هذا بكثير، والورطة الثقافية والاجتماعية المترتبة عليها، متشعبة الجذور والفروع.. هكذا فإن صحراء الشرق العنصرية، التي تحتوي الكبير والصغير، القوي والضعيف، بين أحضانها الفاشية، تكاد تخلو من نصير جاد وحقيقي لحقوق الإنسان، ولقيم الإنسانية والحداثة والحرية.
تلعب شعوب المنطقة إذن دور الأحجار المتساقطة في قاع محيط، والعاجزة على أن تطفو بنفسها، مادام الكل quot;في الهم شرقquot; كما يقولون، ليبقى الأمل في الخلاص من تلك الحالة رهناً بعصر العولمة، الذي يربطنا بالعالم ويربط العالم بنا، لتأتينا منه كتل من الأخشاب، القادرة على الطفو بنا، لو أجدنا التشبث بها، أو لو أحكمت هي ربطنا إليها.
[email protected]
الجزء الأول |
يذهب البعض إلى أن الفقر والجهل وضيق العيش، هو الذي يؤدي إلى دفع البشر للتصادم مع بعضهم البعض، ويرون أن الانتماءات العنصرية تلعب دوراً ثانوياً أو مكملاً، وهذا القول بلا شك صحيح جزئياً وإلى حد ما، لكن صحته بالطبع غير مطلقة، فالثراء والعلم أيضاً إذا ما ارتبطا بخواء وانغلاق فكري، وبدوجما ذات طبيعة عدوانية، يمكن أن يكونا دافعاً وداعماً خطيراً للتوجهات العنصرية، وأمامنا هنا كنموذج أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، ونائبه أيمن الظواهري الذي ينتمي إلى عائلة مصرية ثرية، وعديد من أفرادها لهم باع طويل في الطب، وهو ذاته طبيب.. لذا علينا أن نبحث عن الأسباب الخاصة وراء ظاهرة العنصرية، مع عدم تجاهل الأسباب العامة، والتي نجدها في جميع الإشكاليات المتعلقة بالبشر، وأهمها الجانب الاقتصادي، حيث في الأغلب لا يصح إدراج العامل الاقتصادي كسبب، وإنما هو يلعب دائماً دور البيئة المناسبة لنمو ظاهرة ما أو خمودها.. إذ يمكن عن طريق الرفاهية مثلاً التخفيف من حدة الاحتقان العنصري، لكن العنصرية ذاتها لا تكون عندها قد تلاشت، وإنما قد تدخل مرحلة كمون، ريثما تأتي ظروف تهييء لها عوامل الظهور والانتعاش من جديد، وقد يحدث العكس، وتتيح الرفاهية للمتشبعين بالروح العنصرية، الوقت والإمكانيات المادية، لممارسة فعالياتهم العنصرية، ولا نعدم في واقعنا أمثلة على هذه الحالة.
نستطيع مؤقتاً أن نرصد أهم عاملين يدفعان نحو ذلك التحول السلبي لطبيعة الانتماء الإنساني إلى جماعة، الأول هو طبيعة الفكر الذي تتمحور حوله الجماعة، فلو اقتصر هذا الفكر على التركيز على مقولات تشيد منظمومة فكرية تقوم عليها حياة الجماعة، أو تخلق لديها نوعاً من توهم (تمثل) الارتباط العرقي وما يستتبعه من تراحم وتكافل، لكان هذا أقل مدعاة للتحول السلبي، منه في حالة ما لو تضمن ذلك الفكر في بنيانه الأساسي شحنات عدائية نحو الآخر، ففي هذه الحالة قد يتوارى أغلب ما يجمع بين المنتمين إلى مثل هذه الجماعة، ليتصدر خلافهم وعدائهم للآخر أولوياتهم، بل وقد يصير هو هويتهم الأساسية، حتى ليخالوا -وإن لم يدركوا هذا بوضوح- أنه لو انتهت حالة العداء بينهم وبين الآخر المستهدف، لانفرط عقدهم، وتبددت جماعتهم وانتماؤهم، وقد سبق لنا تسمية مثل تلك التجمعات quot;بالتجمعات التفاضليةquot;، وهي التي تعتمد على تقوية الروابط بين أفرادها، عن طريق كراهيتهم المشتركة وتخوفهم من آخر (الذي يتم شيطنته)، يكون وجوده حيوياً لبقاء الجماعة متماسكة، في مقابل quot;التجمعات التكامليةquot;، التي تعتمد في تماسكها على ما يربط بين أفرادها من صلات ومصالح، لدينا هنا نموذج الاتحاد الأوروبي، ومن الطبيعي أن نجد مثل تلك النوعية الأخيرة من التجمعات، منفتحة على الآخر ومتكاملة معه.
العامل الثاني الذي يساهم في تحويل الانتماء إلى صورة سلبية، هو أن الانتماء الطبيعي إلى جماعة، لا ينبغي أن ينفي أو يتجاهل مقومات مشتركة عديدة، بين أفراد تلك الجماعة، وبين سائر البشر، المنتمين أو غير المتنمين إلى دوائر أخرى.. وإلإ فإن ذلك الانتماء يتحول إلى زنزانة خانقة، إذا ما نظر الإنسان إلى العالم من ثقبها الضيق وحده، متجاهلاً ما يربطه بمن يعتبرهم آخر، من روابط إنسانية هائلة التعدد والامتداد.. فكما أن الإنسان الفرد كائن فريد لا يتكرر، إلا أنه يعيش وينمو وسط الآخرين، اعتماداً على مساحة المشترك الواسعة، بين الفرد وباقي المجموع، ويعتبر التقوقع والانكفاء على الذات الفردية، حالة مرضية، تؤدي بمن تصيبه إلى الهلاك.. هذا ذاته يسري على الكيانات الجمعية الاعتبارية، سواء كانت كيانات عرقية أو دينية أو سياسية، فهي إن لم تسع لملء مساحة المشترك بينها وبين باقي الكيانات، فإنها تحكم على نفسها بمعاداة الحياة والبشرية، وتدفع نفسها بنفسها في طريق الانقراض والتبدد.. فالانتماء الطبيعي الذي تحدثنا عنه، لا يعني أن ينسلخ الإنسان عن انتمائه الإنساني، ليحشر نفسه في قالب جامد، هو قالب تلك الجماعة، مجمداً أو لاغياً لكل ما يربطه بسائر البشر الطبيعيين.
المأساة العنصرية في الشرق الأوسط الكبير، ليست مجرد هيمنة جماعات عنصرية مهيمنة وعدوانية، على جماعات وهويات صغرى ضعيفة ومستضعفة.. نعم تُنسب جرائم quot;الحالة العنصريةquot; السائدة في الشرق، إلى الكيانات والتشكيلات العنصرية الأكثر عدداً وقوة، فهي التي تتحمل مسئولية ما نعرفة quot;بالممارسات العنصريةquot;، التي تُضطهد فيها الأقليات، وهي بالتحديد العنصرية المتأسلمة، والعنصرية العروبية، التي تفرض العروبة قسراً على كل الشعوب، التي سبق وأن اكتسحتها الجيوش العربية من أربعة عشر قرناً، عملت حلالها على إبادة وإذلال تلك الشعوب، متعللة بحملها راية الدين الإسلامي تارة، وبالتعريب القسري لتلك الشعوب والحضارات تارة أخرى.. ويصل ذلك الإذلال والاضطهاد في بعض الحالات إلى حد الإبادة الجماعية، كما حدث للأكراد في العهد الصدامي، ولأهل دارفور الآن على يد البطل العروبي المغوار عمر البشير، وكما نتحسب الآن مما يمكن أن يحدث للبهائيين في مصر (ما قد يعد أجراس إنذار للأقباط)، إذا ما استمر تراجع مؤسسات الدولة الرسمية أمام الهجمة العنصرية المتأسلمة، على بضع عشرات من المواطنين البهائيين الأبرياء، والعزل حتى من الحماية الأمنية، التي تحفظ لهم أرواحهم ومقومات حياتهم.
إلا أن quot;الثقافة العنصريةquot; في شرقنا الأوسط، ليست حكراً على الكيانات العنصرية الكبيرة والمهيمنة وحدها، فقد صارت quot;العنصريةquot; -بالمفهوم الذي تناولناه- حالة ثقافية عامة، يغرق ويتساوى فيها الجميع، القوي والضعيف، الظالم والمظلوم.. هذا بالطبع معاكس لما قد يتبادر لذهن مراقب خارجي، يستمع لصراخ الأقليات الضعيفة (مثلما يصدر الآن من بعض ممن يُعرفون بأقباط المهجر)، التي تعاني القهر والتهميش والتمييز، فيتصور أن هؤلاء الذين ذاقوا مرارة quot;العنصريةquot; وجناياتها على الإنسان وحقوقه، لابد وأن يحملوا في جنباتهم توقاً للحرية والعدالة والمساواة، وأنهم صاروا أعداء لمناهج quot;التفكير العنصريquot;، وخلعوا عنهم رداء الانتماء العنصري، ليكون انتماؤهم الأساسي للإنسانية، وللمعايير العالمية لحقوق الإنسان.. لكن النظرة المتعمقة والمتمهلة لواقع الحال، تكشف لنا أن الضارب والمضروب.. القاتل والمقتول، كلاهما ابن ثقافة واحدة وحيدة، هي ثقافة البغضاء والاستعلاء والهيمنة العنصرية، وما الفارق بين الطرفين المتناحرين، إلا ذات الفارق بين المُتَمَكِن والمُتَمَكَن منه، أو بين القوي والضعيف، بحيث لو فُرض وانقلبت موازين القوى فجأة، لرأينا نفس التمثيلية ونفس الممارسات، يقوم فيها هذه المرة المضروب بدور الضارب، والعكس صحيح.. فعلى سبيل المثال، عندما نقرأ أخيراً خبراً يقول، أن quot;مدينة بريان الجزائرية التي شهدت مواجهات طائفية بين أتباع المذهب المالكي والإباضي، تحولت إلى مدينة أشباح، إثر إقفال المحال التجارية أبوابها، استجابة لإضراب التجار المتضررين من أعمال التخريب، وذلك على طول الطريق الوطني رقم واحد، الذي يقسم المدينة إلى جزأين، شرقي إباضي وغربي مالكي.quot;، فإن لنا أن نستنتج أن القضية ليست مجرد رفع يد الظالم القوي عن كاهل المظلوم الضعيف، أو تحصيل حق الأضعف من الأقوى، فالمسألة العنصرية أكثر تعقيداً من هذا بكثير، والورطة الثقافية والاجتماعية المترتبة عليها، متشعبة الجذور والفروع.. هكذا فإن صحراء الشرق العنصرية، التي تحتوي الكبير والصغير، القوي والضعيف، بين أحضانها الفاشية، تكاد تخلو من نصير جاد وحقيقي لحقوق الإنسان، ولقيم الإنسانية والحداثة والحرية.
تلعب شعوب المنطقة إذن دور الأحجار المتساقطة في قاع محيط، والعاجزة على أن تطفو بنفسها، مادام الكل quot;في الهم شرقquot; كما يقولون، ليبقى الأمل في الخلاص من تلك الحالة رهناً بعصر العولمة، الذي يربطنا بالعالم ويربط العالم بنا، لتأتينا منه كتل من الأخشاب، القادرة على الطفو بنا، لو أجدنا التشبث بها، أو لو أحكمت هي ربطنا إليها.
[email protected]
التعليقات