الحلقة الأولى


يمكننا الزعم بقدر لا بأس به من اليقين، أن منطقة الشرق الأوسط الكبير هي أرض العنصريات المتوطنة، كانت كذلك على مر التاريخ، وهي الآن تعاني والعالم كله معها، مما تحتضن من تيارات عنصرية، متناحرة متصادمة.. لا غرابة في ذلك، والشرق الأوسط منذ الأزل قبلة الهجرات والحضارات والأجناس البشرية، وساحة تلاقيها وتلاقحها، وأيضاً تصادمها وصراعها، الذي غلب عليه في معظم الأحيان لون الدماء، وغبار التخريب والتدمير، لكن تلك التيارات العنصرية، صيرت الشرق الأوسط في عصرنا الحالي، مستودعاً لتصدير البخار الكريه المتخلف عن معاركها، فتتأذى كل الشعوب من حولنا، وتضيق صدورها مما تستنشق، فيما شعوبنا سعيدة مخدرة بهيامها وخيالاتها العنصرية، مصرة على استمرار التناحر والنحر، لآخر بشري وآخر نبتة خضراء، وآخر حجر فوق حجر في ساحة الأرض اليباب.
ليس ما نعنيه ndash;ويعنيه العالم- بالعنصرية، أن يستشعر الفرد الانتماء إلى جماعة معينة، والاعتزاز بها، والفخر بالأساس الذي تقوم عليه الجماعة، سواء كان هذا الأساس هو الانتماء إلى جنس، كالرجال في مقابل النساء، أو إلى عرق معين، كالعرب أو الأكراد أو المصريين أو النوبيين (باعتبارهم عرقاً مميزاً وجزئياً من الجنسية المصرية) أو الأمازيغ أو الأفارقة، أو أن تقوم الجماعة المنتمى إليها على أساس عقيدة دينية، يؤمن بها الفرد قلبياً وعقلياً، ويعتبرها حقيقة مطلقة وكاملة، بل وقد يعتبر كل عقيدة سواها هي عين الباطل.. كل تلك الحالات والانتماءات لا بأس بها، ولا غبار عليها، وتتفق مع ميل طبيعي للإنسان -ذلك الحيوان الاجتماعي- إلى الانتماء إلى دائرة أوسع من محيطه الشخصي، ففي هذه الدوائر يستشعر الفرد دفء الانتماء إلى مجموع، وأمان الالتحاق بقوة أكبر توفر له الحماية، كما توفرها الصدفة للحلزون الرخو بداخلها.. فالإنسان بدون انتماء ما، قد يستشعر الوحدة والضياع في هذا الكون الواسع والحافل بالمتناقضات والحيرة، وقد يجد الحل ndash;ولو الجزئي- للتخلص من هذا الشعور ودفع غائلته، بالبحث عن يقين توفره له جماعة وانتماء ما، فيصير هذا اليقين المستمد من الانتماء بمثابة العمود الفقري لوجوده، والذي تنتصب به قامته، في مواجهة كل أنواع الأنواء والأعاصير.
فالتنوع في المجتمعات وبين الشعوب إذن، لا يستلزم بالحتم شيوع quot;العنصريةquot;، بما يصاحبها من بلايا، بل هو بالأساس ميزة تضمن للمجتمعات الحيوية، وتبقي على الحوار والجدل قائماً، بما يكفل الديناميكة اللازمة للتطور، بل ويعتبر التنوع بمثابة لقاح يقي المجتمعات شر الجمود ومن ثم التخلف.. وهذا ما نرصده في عالمنا، في أمم عظيمة قطعت أشواطاً طويلة في طريق التقدم، أو سائرة فيه بخطى حثيثة، رغم أنها مبنية أساساً على التنوع، وليس على الوحدانية، مثل سويسرا والولايات المتحدة الأمريكية والهند.
تبدأ ما تطلق عليه الإنسانية حالياً quot;عنصريةquot; -ذلك الاصطلاح البغيض- عندما تتعدى نظرة الإنسان إلى انتمائه للجماعة، حدود الاعتزاز بها، والإيمان بالأسس التي تقوم عليها، إلى معاداة كل ما ومن هو خارج عن تلك الدائرة، والنظر إليه نظرة استعلاء عليه واحتقار له، هذا ابتدائياً، وقد يتفاقم الأمر في ذات الاتجاه، فتتحول النظرة العدائية إلى ممارسات عملية، قد تبدأ بمقاطعة هذا الآخر، ثم تتفاقم لممارسة العنف، لتحطيم هذا الآخر أو إبادته، سواء مادياً أو معنوياً وأدبياً.
فلا بأس أن يعتقد الألماني في تفوق الجنس الآري، وأن يعتز بانتمائه إلى أمة قوية وقادرة على البناء الحضاري، الذي يظن أن لا أمة أخرى قادرة على الإتيان بمثله.. لكن quot;العنصريةquot; البغيضة تبدأ، حين يتحول الانتماء من طبيعته الإيجابية، التي تزيد من ترابط الجماعة وتلاحمها البنَّاء، إلى وجهة سلبية موجهة إلى خارج دائرة الانتماء، فيتصور الألماني مثلاً، أن اعتقاداته في تميز جماعته وتفوقها، يبرر ويتيح له الهيمنة على باقي الأجناس والأعراق، بل وإبادة بعضها، كما حدث من النازي مع اليهود.. لا بأس أن أعتقد أنني الأقوى والأقدر، لكن هذا لا يعطيني الحق في سلب وسحق وظلم من أتصورهم الأدني والأضعف.. فالمجال المشروع لممارسة التفوق، هو المجال الإيجابي، أي مجال البناء، بتقديم إنجازات حضارية لصالح البشرية، وليس تحطيم وإبادة من أتصورهم الأدنى.
على ذات النمط ننظر في طبيعة الانتماء إلى دوائر دينية، والذي يختلف في جانب خطير عن طبيعة الانتماء إلى دائرة عرقية، أي إلى جنس محدد من البشر.. فالاعتزاز بالانتماء إلى جنس معين، لا يعني بالضرورة، أو لا يتضمن بالحتم، النظر إلى الأجناس الأخرى نظرة سلبية، ناهيك عن التوجه نحوها بممارسات عدائية.. لكن الانتماء الديني يتأثر بطبيعة الاعتقاد الديني، وأهم معالمه تصور امتلاك الحقيقة المطلقة، والذي لابد أن يعني أن كل ما سواها باطل تماماً.. ورغم أن هذا يتضمن ولاشك نظرة سلبية للآخر، إلا أنه لا يؤدي بصفة حتمية أو مبدئية، إلى التوجه نحو الآخر بممارسات عدائية، ما لم تكن طبيعة ذلك الخطاب الديني محل الاعتقاد، هي التي تدفع المؤمنين به إلى مثل تلك التوجهات والممارسات.. مع ذلك ولذلك نقرأ في التاريخ الإنساني، أن أغلب الحروب وأشدها قسوة وعنفاً بين البشر، قامت تحت بيارق وشعارات دينية، مما يحرضنا على استنتاج أن التطرف في الانتماء الديني، له الباع الأطول في تأجيج ثقافة العنصرية وممارساتها، وهو الأقدر على تحفيز الدهماء واستثارتهم، حتى لو تم ذلك لحساب أجندات خفية، هي أبعد ما تكون عما يرفع من لافتات ويطلق من صيحات.
لا بأس أن أكون متيقناً من امتلاكي وحدي (أنا ومن هم على نفس عقيدتي الدينية) للحقيقة المطلقة، التي لا حقيقة سواها، كما لا بأس أيضاً أن أتمنى أن يصل جميع البشر، إلى ذات ما توصلت إليه (أنا وأهل ديني)، وأن أجتهد أن ينعكس ذلك بصورة إيجابية على تصرفاتي وتوجهاتي العملية، بأن أقدم للآخرين صورة إيجابية بناءة، تحببهم في هذا الدين وأهله.. لكن العنصرية تبدأ عندما أتجاوز التصورات والممارسات البناءة، إلى أخرى سلبية، تسعى للهيمنة والاستئصال تحت رايات الدين ومقولاته، لتشابه توجهات أدولف هتلر النازية، التي كلفت البشرية ملايين القتلى، ومساحة هائلة من الدمار.
لا يتوقف ضرر العنصرية على ما يصاحبها ويترتب عليها من صدامات، تلحق أضراراً بالآخرين وبنفسها، فهناك عامل خطير ndash;وبالذات في عصرنا هذا- هو أن انكفاء الجماعة العنصرية على ذاتها، وتعصبها وتشددها ضد كل ما هو خارجي، يعزلها ثقافياً وحضارياً عن العالم الخارجي، فتكون تلك المجموعة كمن حكمت على نفسها بالسجن في زنزانة ما تسميه هويتها أو دينها، تظل قابعة فيها، معتزة بها، فيما العالم من حولها يتقدم ويتطور ويتفاعل.. لدينا لهذا نموذج الجيتوهات اليهودية في أوروبا، وحالياً تنتشر الجيتوهات الإسلامية والمسيحية الشرقية، في أنحاء أوروبا وأمريكا، مع الفارق بالطبع بين درجة الانغلاق وعدم القابلية للاندماج بين مختلف تلك الجيتوهات.
ولحديث العنصرية بقية نستكملها.
[email protected]