لاشك أن ما يعرف بالصراع العربي الإسرائيلي هو صراع عنصري بامتياز، فرغم وجود عناصر الاختلاف المادي بين طرفي الصراع، إلا أن الاختلافات المادية بين الكيانات والدول والشعوب، سرعان ما يجد المتصارعون طريقاً لحلها، بعد أن يكون الطرفان قد أنهكهما من الصراع، بغض النظر عن التصنيفات التقليدية التي لا تخلو غالباً من تبسيط يصل إلى حد التسطيح، فتطلق على طرف لفظ غالب، وعلى الآخر مغلوب، فالتفوق العسكري قد تكون له الكلمة الأولى، لكنها لا يمكن أن تكون أيضاً الأخيرة، بمعزل عن الجوانب الاقتصادية والديموغرافية وما شابهها.
أما الصراع العربي الإسرائيلي، والذي يجوز الآن بعد مرور ما يقرب من قرن على اشتعاله، بأن نلقبه quot;بصراع المائة عامquot;، فإن كل ملامحه وملابساته، تشير إلى أن العنصرية التي يتميز بها، هي سر دوامه كل تلك الفترة، وهي ذاتها ما ترشحه للاستمرار، عدة عقود وربما قرون أخرى.
سوف يسارع الجميع تقريباً -مهما اختلفت المواقع ووجهات النظر- لتأييد الفقرة السابقة، لكن بناء على تصور كل طرف، أن quot;العنصريةquot; هي التوصيف الدقيق والوحيد للطرف الآخر، ورغم أن كاتب هذه السطور ممن يركزون على ضرورة لفت الانتباه إلى الحاضر والاعتناء والاحتفاء به، والتخلص من أسر الماضي، بغيضاً كان أم مجيداً، إلا أنه ولو على سبيل مسح الغبار المتراكم على العوينات التي نرى بها الواقع، على هدى خبرات وذكريات التاريخ القريب، لا بأس أن نمر في عجالة على طرف من العلامات الجوهرية في تاريخ ذلك الصراع، نحاول فيها أن نغري القارئ والباحث المنصف، بإعادة قراءة التاريخ، وفق معايير موضوعية، لا تضع طرفاً على عروش الملائكة، وتضع الآخر في حضيض الشيطنة.
الحركة الصهيونية التي تأسست بناء عليها إسرائيل، أسسها علمانيون، ويصنف أغلبهم كملحدين، وإن استندوا في تصوراتهم عن مصير اليهود إلى مقولات وأساطير دينية، وهذا أمر متوقع من جماعة تضم طائفة دينية، لكن أيديولوجيتهم كانت تركز على إنقاذ اليهود مما يحيق بهم في روسيا ودول أوروبا الشرقية، ثم جاء النازي ليزيد الأمور تفاقماً، ومن الناحية المبدئية لم تتضمن أفكار الصهاينة عداء لأي عنصر كان، وقد عزز من الالتزام بعدم العداء لغير اليهود، طبيعة الدين اليهودي ذاته، فهو دين مغلق على ذاته، ولا يرى الآخر إلا كأممي، خارج شعب الله المختار، لكنه لا يستهدفه بالعداء، ولا يسعى للضغط عليه، من أجل هدايته بالتحول لليهودية. . نعم عدم الاعتبار للآخر هذا، قد أثمر في الماضي البعيد، ما تخبرنا به التوراة من مذابح، يندى لها جبين الإنسانية في العصر الحالي، إلا أن قارئ التوراة اليهودي والمسيحي، ينظر لتلك الأحداث في سياقها التاريخي، حيث كانت هذه هي طباع وممارسات الشعوب في تلك الأزمنة الغابرة، يتصرفون جميعاً على ذات النهج، وإن اختلفت التنظيرات والرايات، ونادرون بالفعل هم المتهوسون، الذين يتصورن أن تلك العلاقات والقيم -بالغة التخلف والبدائية- قابلة للتطبيق الآن، في ألفية العالم الثالثة.
هكذا نجد الوثيقة المعروفة بوعد بلفور، وهي الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا، إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد سنة 1917، تنص على مايلي: quot;يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: quot;إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.quot;
إلى هنا ليس في الأمر عنصرية بمعناها البغيض، لكن هناك حركة صهيونية، تسعى لتحقيق واقع أفضل لليهود، الذين ذاقوا ويذوقون وقتها الأهوال، جراء اضطهادهم في أنحاء أوروبا، دون ما نية مبيتة لإيذاء أو للعداء لطرف آخر، ما يتضح جلياً في وعد بلفور، الذي يحلو لنا وصفه بالمشئوم.
ولننظر في أكثر من فقرة من إعلان إقامة دولة إسرائيل- وثيقة الاستقلال، المعلنة في 14/5/1948، لنرى ما نلقبه quot;كيان عنصريquot;، إن كان في طبيعته وأساس تكوينه، المثبت في هذه الوثيقة عالية الأهمية، هو بالفعل quot;كيان عنصريquot;، أم أن الاقتتال والدماء التي أريقت ومازالت تراق، هي نتاج عنصرية مقابلة، كان من الطبيعي أن تجد عنصرية مضادة تدافع عمن تمثلهم؟
تقول وثيقة الاستقلال:
عن الشعب الإسرائيلي: quot;ينشد السلام ويدافع عن ذماره ويزف بركة التقدم إلى جميع سكان البلادquot;
quot;تكون دولة إسرائيل مفتوحة الأبواب للهجرة اليهودية ولجمع الشتات , تدأب على ترقية البلاد لصالح سكانها جميعاً، وتكون مستندة إلى دعائم الحرية والعدل والسلام، مستهدية بنبوءات أنبياء إسرائيل . نقيم المساواة التامة في الحقوق اجتماعياً وسياسياً بين جميع رعاياها، من غير تغيير في الدين والعنصر والجنس، وتؤمن حرية الأديان والضمير والكلام والتعليم والثقافة، وتحافظ على الأماكن المقدسة لدى كل الديانات وتكون أمينة لمبادىء ميثاق الأمم المتحدة.quot;
quot;إننا نناشد الأمم المتحدة أن تمد يد المساعدة للشعب اليهودي في تشييد دولته وقبول دولة إسرائيل ضمن أسرة الأمم. إننا ندعو أبناء الشعب العربي سكان دولة إسرائيل - رغم الحملات الدموية علينا خلال شهور- إلى المحافظة على السلام، والقيام بنصيبهم في إقامة الدولة، على أساس المساواة التامة في المواطنة والتمثيل المناسب في جميع مؤسساتها الموقتة والدائمة.quot;
quot;إننا نمد يد السلام وحسن الجوار لجميع البلدان المجاورة وشعوبها، وندعوهم إلى التعاون مع الشعب اليهودي المستقل في بلاده، وإن دولة إسرائيل مستعدة لأن تساهم بنصيبها في مجهود مشترك لرقي الشرق الأوسط بأسره.quot;
هذه هي إذن التوجهات الأساسية والمعلنة، والتي من الطبيعي في جميع الحالات، أن يكون بينها وبين التطبيق العملي مسافة ما، فليس من المعتاد في أنحاء الدنيا وعلى مدى التاريخ، أن تكون الأرض سهلة ومفروشة بالورود لتحقيق الأحلام، كما أنه ليس من الحصافة أن نفترض حسن النية والإخلاص من الجميع، لتحقيق المعلن والمفترض، لكن المسافة هذه بين الواقع والمفروض في حالة القضية الفلسطينية، جاءت أكبر وأوسع من كل ما هو طبيعي. . فقد كانت المقاومة في فلسطين لتأسيس هذا الوطن القومي لليهود، تستند بالإضافة للدواعي المادية على الأرض، والتي تجعل المقيم في مواجهة مع القادم، حتى لو كان المجال باتساع قارة بكر، كما حدث من الهنود الحمر، تجاه الأوروبيين المؤسسين الأوائل للولايات المتحدة، كان هناك أيضاً العداء الديني لليهود، بالإضافة إلى النوازع النازية المعادية للآخر، والتي تجسدت جلية في توجهات وتحركات مفتي القدس الحاج أمين الحسيني. . هكذا أدرك القائمون على تأسيس الدولة الإسرائيلية استحالة قيامها دون الاعتماد على السلاح، فنجد ثيودور هيرتزل مؤسس الدولة الصهيونية، يدعو في كتابه إلى حمل السلاح ضد بحر المشاكل التي سوف تثيرها محاولات منع إقامة الدولة الصهيونية، ما تبناه من بعده فلاديمير جابوتنسكي، الذي تتلمذ على يديه كبار الإرهابيين (أو المجاهدين وفقاً لمفاهيمنا) من أمثال مناحيم بيجين وإسحاق شامير، الذين اعتنقوا العنف المطلق، وملأوا وجدان شباب الصهاينة بالروح العسكرية.
وعلى ضوء هذه النزعة إلى العنف، تكونت العصابات الصهيونية الإرهابية في الأربعينيات، لتحرير الدولة الصهيونية من الانتداب البريطاني، وإقامة دولة يهودية مستقلة، وكان من أبرزها منظمة quot;الأرجونquot; التي تولى زعامتها مناحيم بيجن رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، ومنظمة quot;شتيرنquot; التي تولى زعامتها رئيس وزراء إسرائيل الأسبق أيضاً إسحاق شامير، وقد تفننت هذه العصابات (قبل توحيد الجماعات العسكرية الصهيونية بعد إعلان دولة إسرائيل في عام 1948 تحت قيادة جيش موحد) في تنفيذ العمليات الإرهابية ضد العرب، وضد القوات البريطانية قبل مغادرتها الأراضي الفلسطينية. . وأمامنا ما تُتَهم به تلك المنظمات، من اغتيال الكونت برنادوت، وهو أحد أفراد العائلة المالكة السويدية، ورئيس الصليب الأحمر السويدي في ذلك الوقت، والذي أوفدته الأمم المتحدة إلى فلسطين كوسيط دولي، للتوصل إلى تسوية سلمية للنزاع، إثر اشتعال حرب 1948، على أساس قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين، وقد بدأ برنادوت مهمته خلال فترة توقف القتال، وتقدم إلى طرفي النزاع بمقترحاته حول التسوية السلمية، متناولاً مسألة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقال أن فتح باب الهجرة اليهودية يبرر مخاوف العرب في فلسطين والدول المجاوة من مخاطر التوسع الصهيوني في الشرق الأسط، واقترح قبول الشعب اليهودي لنوع من التنظيم الدولي للهجرة، في سبيل مصلحة السلم مع جيرانه العرب، وكانت النتيجة أن أُطلقت عليه النار فأردته قتيلاً.
يعني هذا أن العقلانية قد غابت منذ البداية عن الطرفين، فقد رفض العرب قرار التقسيم من الأساس، واختاروا شن حروبهم الفاشلة، كما رفض اليهود أي حديث عن تحديد الهجرة، لتتناسب أعداد القادمين مع مساحة وإمكانيات الأرض، ليدخل الجميع إلى مستنقعات لايبدو حتى الآن لها نهاية.
في المقابل نجد القادة العرب كعادتهم، يختارون الحصان الخاسر للعب عليه، في صراع العالم الحر مع النازية الألمانية والفاشية الإيطالية. . وربما كان وراء اختيارهم ما هو أعمق من سوء تقدير موازين القوى، حين اختار الحاج أمين الحسيني الصف النازي لينضم إليه، ربما باعتباره الأقرب لميوله وأفكاره ونظرته للحياة وللآخر، فيلتقي بهتلر عام 1941م، وفي لقائه الثاني به يعرض أمين الحسيني تكوين جيش عربي إسلامي من المتطوعين في الشمال الأفريقي وشرق المتوسط لمقاومة الحلفاء.
ويبدأ أمين الحسيني يعد للمواجهات، شأنه شأن نظرائه من قادة الحركة الصهيونية، واضعاً لنفسه الأهداف التالية:
فتح أبواب الكليات العسكرية الألمانية لتدريب الشباب العربي والفلسطيني، بما يُعَدُّ نواه لجيش الجهاد المقدس في طوره الثاني.
middot; العمل على استصدار بيان من قيادة المحور، يضمن الاستقلال لأكبر عدد من الدول العربية، بعد انتصار المحور على الحلفاء في هذه البلاد.
middot; العمل على الحصول على أكبر كمية من الأسلحة وتخزينها، استعداداً لمرحلة قادمة، وقد قام بالفعل بتخزين السلاح في مصر وليبيا وجزيرة رودس.
middot; نجح في تكوين معهد لإعداد الدعاة في إلمانيا، وقام بإقناع القيادة الألمانية بوضع داعية في كل الفرق العسكرية التي بها مسلمون.
middot; وفي نفس الوقت دفع بعض الشباب المسلم العربي للاشتراك في الجيش، للتدرب على كافة الأعمال القتالية.
(ملحوظة جانبية: هل لكل هذا علاقة، بدأب مثقفينا حتى الآن على إنكار المحرقة اليهودية على يد النازي؟)
إذا نأينا بأنفسنا عن الجدل حول المتسبب الأول، في تحول حركة هجرة اليهود من أوروبا إلى الشرق، من مجرد واحدة من آلاف وربما ملايين تحركات وانسياحات الشعوب عبر التاريخ، ويوجد مقابلها أضعافاً مضاعفة من عرب المنطقة، يتحركون باتجاه الغرب، الذي رحب ويرحب بهم، ولا يعتبرهم من قبيل الغزو العربي أو الإسلامي لبلاده. . لتتحول هجرة اليهود بالتحديد (دون كل ما عداها)، إلى صراع يبدو أبدياً، أو حسب تعبير أشاوسنا صراع وجود، فإنه من الواضح أن الطرفين، اليهود القادمين والمقيمين الأصلاء، والطرف الفلسطيني العربي، كلاهما قد تسلح ليس فقط بالبارود، وإنما أيضاً بترسانة من المقولات والمفاهيم العنصرية، وهي ما رفد الصراع طوال كل تلك العقود، بوقود لا ينفد من الكراهية والإصرار على دوام الاقتتال.
لا نبغي من اشاراتنا التاريخية هذه إلقاء اللوم في توطن العنف بالمنطقة على طرف دون الآخر، كما لا يعني رجوعنا إلى التاريخ أننا ننتوي اتخاذه مرجعية نقيم الحاضر على أساسها، فتاريخ الإنسانية حافل بالجرائم، كما هو حافل أيضاً بالإنجازات الحضارية، ولا يكاد يبرأ طرف من المشاركة بقدر أو بآخر في ارتكاب هذه الجرائم، لكننا قد نستفيد من إعادة قراءة التاريخ، أن نخرج منه بنظرة أكثر واقعية، سواء لأنفسنا أو للآخر، علنا نكف عن إدمان ارتداء ملابس الملائكة وأجنحتها، وتصور الآخر بشكل شيطان مريد.
لو أدرنا الظهور للماضي ومآسيه وجرائمه، وأعطينا جل انتباهنا وتركيزنا، للواقع الحال هنا والآن، لنحاول أن نستكشف لنا طريقاً جديداً بحق، يكفل أن نحيا جميعاً نحن شعوب هذه المنطقة البائسة في سلام، ربما نستطيع يوماً أن نجفف مستنقعات الشرق الموحلة بالدماء ومخلفات القرون.
لكن هل نحن، والشعب الفلسطيني بالتحديد، مؤهلون للسير في طريق السلام، أم هناك ما يعوقنا، ويجذب انتباهنا ويعلق عقلوبنا بتوجهات أخرى؟
التعليقات