أبداً ليس من قبيل المبالغة أو الرؤية المتعاظمة للذات، أن ننسب للعرب قصب السبق والبراعة التي لا نظير لها، فيما يمكن أن يسمى quot;فن تحويل النعمة إلى نقمةquot;. . فالإمكانيات الجمالية للغة العربية، والتي تكاد تنفرد بها بين لغات العالم، هي ولا شك نعمة، هذا بالطبع إذا ما تم توظيفها في المجال المناسب، لننتج بها أدباً راقياً، يستمتع به القارئ العربي، ويحسده عليه من شاء حظة العاثر ألا يولد من أم عربية، تلقنه تلك اللغة المتفوقة في إمكانياتها الجمالية.

لكن تلك النعمة من الجماليات اللغوية، تتحول إلى نقمة، إذا ما أسأنا استخدامها وتوظيفها، وكلفنا بها لذاتها، ووظفناها في الخداع والتضليل، ليس تضليل الآخر الذي ينصت إلينا وحسب، لكن بالدرجة الأولى تضليل أنفسنا، وإخراس ضمائرنا، هذا مع افتراض أنه تبقى لدينا من يحمل في صدره ضميراً حياً، لم تطمره دولارات النفط، ولم تغتاله الكراهية وإدمان العداء لكل ما هو جميل ومتحضر في الوجود.

كان هذا كل ما خرجت به، وأنا أمام جهاز التليفزيون، أقاوم النعاس بشق النفس، لأتابع كلمات الجلسة الافتتاحية لقمة غزة الطارئة في الدوحة، والتي يلقيها أصحاب الفخامة والسيادة رؤساء محور قطر الجديد، والذي من المأمول له أن يتمخض كما قال المفوه زعيم جزر القمر، عن زعامة عالمية وعربية جديدة، لحاكم قبيلة لا يتعدى عددها النصف مليون مواطن، هذا بالطبع بخلاف quot;البدونquot;، والذين لا يجرؤ ولا يكترث أحد من نشامى العرب بتبني قضيتهم الحقوقية والإنسانية، وليس هذا بذي أهمية بالطبع، مادامت الزعامة في الأمة العربية لا تعتمد على مقومات موضوعية، تكفل لها ضروراتها ومبرراتها، التي يؤمل منها تحقيق مصالح شعوب مغيبة ومخدرة أبداً، وإنما تعتمد بالدرجة الأولى على القبضة الحديدية، ثم المقدرة البلاغية، التي تتيح للقائد الضرورة أن يقدم للجماهير المتلهفة للاستثارة العاطفية، توجهاته الصدامية الأعظم حماقة وجهلاً، ملفوفة في ثوب قشيب من البديع والطباق والجناس، وسائر ألاعيب لغتنا العربية، الأكثر جمالاً وقدسية من كل لغات العالم.

هكذا جاء مؤتمر الأشاوس والنشامى في الدوحة، احتفالية بلاغية لا نظير لها، حيث تحلق أصحاب السمو والفخامة والسيادة، ومعهم رهط من رجال العصابات الدينية والقومية، حول مائدة كانت فوقها جثة غزة المقتولة والجريحة والمدمرة. . ورغم أن عيونهم وكلماتهم كانت مركزة على الطريحة أمامهم تئن وتتوجع، إلا أن إمكانياتهم النضالية والجهادية والبلاغية، لم تسمح لهم أن ينزلوا إلى أرض الواقع، ليتدبروا السبل العملية لإنقاذ أهل غزة مما حاق ويحيق بهم من تدمير. . لم تسمح لهم مواقعهم المحلقة في سماوات النضال والجهاد والبلاغة أن يسمعوا الأنين والحشرجة، ويروا الدماء المسفوحة في طرقات غزة، وتتحرك قلوب إنسانية، من المفترض أنهم يمتلكونها كسائر البشر. . لذا فلا لوم ولا تثريب عليهم، إن اختاروا البلاغة طريقاً، لتبرير أكثر التوجهات والسياسات بؤساً وفشلاً، فهذا ما درجوا وما تربوا عليه منذ عقود بل قرون طويلة، كان الشعر والفخر والهجاء والرثاء فيها، هو ديوان العرب ومحور أفكارهم، إن كان يصح أن نطلق على ما بمثل تلك الرؤوس تسمية أفكار.

هكذا كانت كل ألاعيب لغتنا هي أداة الجميع الوحيدة، ما عدا فخامة الرئيس الموريتاني، الذي فيما ظهر، لا يعرف من اللغة العربية أكثر مما يعرفه خريج المدارس المصرية عن اللغة الإنجليزية، فلم نفهم منه شيئاً، إن كان بالفعل لديه شيئ يمكن أن يفهم.

جاء في مقدمة الجميع فخامة الرئيس بشار بن الأسد، فقد تفوق كعادته على نفسه وعلى الجميع، في استخدام الكنايات والاستعارات والطباق والجناس، موهبة ومقدرة رائعة، تتيح له أن يقدم سياساته البعثية النضالية الجهادية العلوية في أحسن صورة وأحكم منطق، والرجل واع لإمكانياته، ويبدو سعيداً ومعجباً بنفسه وهو يستخدمها، حتى لنكاد ننسى أن هذا الشبل المغوار المناضل، قد ولد بعيد احتلال إسرائيل للجولان من 41 عاماً، وأنه طوال تلك الفترة تقوم سوريا بدور الطفل المؤدب في فصل دراسي يقوم بالتدريس فيه معلم يلوح طوال الوقت بعصا غليظة. . ومن الطبيعي في غمرة إعجاب السامع ببلاغته، أن ينسى أن العزة والكرامة والنضال الذي يتحدث عنه الشبل الرائع، لا يمكن أن يعني أن يكتفي هو quot;بحق الردquot; إزاء الاعتداءات الإسرائيلية المتتالية على بلاده، فيما يصدر النضال والجهاد والخراب إلى لبنان وفلسطين، كما لابد وأن أحداً لن ينتبه ساعتها، أن العزة والكرامة التي يتحدث عنها، لا يمكن أن تمتد إلى حياة الإنسان السوري المحكوم بالحديد والنار، فهي ليست عزة وكرامة أرضية، يتمتع بها الفقراء وعامة الناس في الشعوب المحكومة من قبل الأشاوس، لكنها عزة وكرامة سماوية، على رؤوس الحكام الضرورة المرفوعة دوماً أثناء خطبهم النارية، وربما تصاحبهم أيضاً في قصورهم المحروسة بالزبانية، وقد يرفلون فيها وهم في ثياب النوم، يمرحون في أحلامهم السعيدة.

لكن ما آلمني بحق، وأفسد علي استمتاعي ببلاغة الخطب العصماء، هو تواجد الرئيس اللبناني ميشيل سليمان وسط هؤلاء. . هذا هو إذن الرئيس الذي أطلقوا عليه لقب توافقي، وهذا هو وضعه المؤسف، وهذا ما أسفر عنه مؤتمر الدوحة (أيضاً). . سوريا إذن لم تغادر لبنان، ولبنان لم ndash;وربما لن- يعد لبنان، بل مجرد تابع كمالة عدد في جبهة الممانعة العربية، الموفقة حتى الآن وبنجاح منقطع النظير، في سعيها نحو تخريب المنطقة وتدمير حاضرها ومستقبلها!!

الطريف أو المضحك المبكي في خطابات الزعماء النشامى، أن جميعهم يحرص على ذكر أن الشجب والتنديد وحده لا يكفي لمساندة أهلنا في غزة، وهم بالتفوه بتلك الكلمات يتصورون أنهم قد أبرأوا ذمتهم، وليس مهماً ولا مطلوباً بعد إقرار تلك الحقيقة المعروفة للجميع، أن ينتهجوا سبلاً، أو يتبنوا آليات تكفل الخروج من دائرة تلك المأساة. . كل همام منهم يكتفي بتأكيد وعيه بحقيقة أن الكلام وحده لا يكفي، وإلى هنا يرى أنه قد أدى ما عليه من واجب، أو أضاف جملاً وعبارات بليغة لخطابه الذي لا تنقصه البلاغة، وبالتالي لا موجب ولا مبرر لمراجعة نفسه، وأن يغير أو ينقلب على سياساته العقيمة، لكي يتسنى له تبني سياسات عملية بحق، وقابلة للتحقق على أرض الواقع.

حفظكم الله من كل شر، وأطال أعماركم وأكثر من أمثالكم، يا قادتنا الأشاوس والنشامى، وأدام عليكم وعلينا تلك البلاغة اللغوية الرائعة، التي لابد ويحسدكم عليها كافة زعماء العالم، وتثير في قلوب أعداء أمتنا الغيرة مما نرزح فيه من جماليات لغتنا العربية.

وكل مؤتمر قمة طارئ أو غير طارئ وأنتم جميعاً طيبين أو مطحونين.

[email protected]