لم تكشف لنا الآلهة منذ البداية
عن كل شيء، لكن بمرور الزمن،
ومن خلال البحث نتعلم ونعرف الأشياء بشكل أفضل
أما بالنسبة للحقيقة اليقينية، فلا أحد يعرفها،
ولن يعرفها أحد، لا عن الآلهة،
ولا عن كل ما أتحدث عنه من أشياء
وحتى لو حدث بالصدفة أن نطق
بالحقيقة الكاملة، فلن يعرفها هو نفسه:
فكل شيء ليس إلا نسيجاً من التخمينات.
عن كل شيء، لكن بمرور الزمن،
ومن خلال البحث نتعلم ونعرف الأشياء بشكل أفضل
أما بالنسبة للحقيقة اليقينية، فلا أحد يعرفها،
ولن يعرفها أحد، لا عن الآلهة،
ولا عن كل ما أتحدث عنه من أشياء
وحتى لو حدث بالصدفة أن نطق
بالحقيقة الكاملة، فلن يعرفها هو نفسه:
فكل شيء ليس إلا نسيجاً من التخمينات.
هذه كلمات قالها الشاعر اليوناني زينوفانيس من حوالي 2500 عام، لكن يبدو أننا مازلنا حتى الآن في أشد الاحتياج إليها.
من المعتقد أن الشرارة الأولى للوعي الإنساني، والتي بدأ على أثرها الإنسان رحلته المفارقة لسائر مملكة الحيوان ولأجداده الثدييات العليا، كانت هي بداية شعوره بالقلق من المجهول والمعلوم المتربص به، سواء من الحيوانات المفترسة والحشرات، أو من ظواهر الطبيعة الجبارة، القلق خوفاً من الأخطار كان دافعه للبحث عن الأمان، وهو ما أوقعه في شرك الحيرة من أي الطرق ينبغي عليه أن يسلك، فلابد أن خبراته ومحاولاته للحفاظ على سلامته كانت تواجه في مرات عديدة بالفشل، الذي لابد وكان في بعض الأحيان باهظ الثمن أو مميتاً، ليسيطر على الإنسان ثالوث القلق والشك والحيرة، ولم يكن تأثير هذا الثالوث شريراً أو مدمراً كما قد يتبادر إلى الذهن، بل كان هو المزيج السحري الذي دفع الإنسان في مسيرته الطويلة، لينجز ما أنجز وما سينجز في المستقبل، في حين أن التخلص منه -بافتراض إمكان ذلك- يحيل الإنسان أو المجتمع إلى جثة هامدة لا رجاء منها.
كان الإنسان إذن كائناً يبحث عن الأمان، وكان يحتاج في كل خطوة إلى quot;يقينquot; بأن خطوته صحيحة، وستحقق له ما يصبو إليه، وقد توفر له اليقين في البداية من خبراته السابقة، التي كانت المصدر الذي يستقي منه التفرقة بين الخطأ والصواب، ومن هنا ما نشأ بعد ذلك من توقير ثم تقديس للعادات والتقاليد، التي كانت بمثابة خزانة لخبرات الإنسان مع الخطأ والصواب، وكان اللجوء إليها عند أي موقف يضمن له معلومة سبق تجربتها من قبل، بل وسبق أن دفع الأجداد ثمناً قد يكون في بعض الأحيان باهظاً للعثور عليها، لذا فإن الخروج على هذه العادات والتقاليد، أو تجاهل ما تمنحه بلا مقابل من يقين، يعني أن الإنسان من الممكن أن يضيع، أو على الأقل يدفع ثمناً لتجاهله لليقين المتاح أمامه، ولسلوكه دروباً جديدة لم يسبق تجربتها.
في المرحلة التالية من مسيرة الإنسان ظهر نوع آخر من اليقين بعد أن عرف عبادة الآلهة، التي كانت في البداية متجسدة في صورة حيوانات وقوى الطبيعة ومظاهرها البارزة، ثم تم تشخيصها في إله مشخص تجتمع له من القوة كل ما كان موزعاً على الآلهة المتجسدة المتخصصة في مختلف مجالات الطبيعة والحياة، ووفرت العبادة والتقرب من الآلهة (الإله) للإنسان نوعاً أرقى من اليقين، فالخضوع والانضواء تحت كنف قوة جبارة يتيح قدراً لا بأس به من اليقين، يحتاجه الإنسان بشدة في المواقف التي لم يسبق أن طالتها خبراته، أو للإجابة على تساؤلاته الوجودية، والتي لا يؤمل أن تصل إليها خبراته العملية يوماً.. هنا ظهر الدين كمصدر أعم وأشمل لليقين، ليتجاور مع العادات والتقاليد، بل وليتداخلا مع بعضهما البعض، فتشمل مقولات الدين أجزاء من العادات والتقاليد، وتتحول أجزاء من المقولات الدينية إلى عادات وتقاليد، يعمل بها حتى غير المعتنقين للدين الذي اقتبست منه، رغم أن بعضها لا يقع ضمن الخبرات السابقة التي أثبتت صلاحيتها العملية، وفي أحيان أخرى تنسب العادات والتقاليد إلى الدين، رغم خلو نصوصه المقدسة منها، وأوضح مثال معاصر للتداخل بين العادات والتقاليد وبين الدين في ذهن العامة نظرتهم إلى مسألة ختان الإناث، واعتبارها واجب ديني، رغم عدم النص عليها في أي دين من الأديان المعترف بها في منطقة الشرق الأوسط.
نستطيع أن نخلص من هذا إلى أن تشبث عموم الناس بالعادات والتقاليد وبالمقولات الدينية، والعزوف عن تأملها ونقدها، علاوة على مناهضة واستبعاد من يتجرأ على مناقشتها، هذا الموقف لا يرجع بالأساس إلى عمق اقتناعهم بما يفعلون ويعتقدون، أو أن قوى مهيمنة تجبرهم على الخضوع والانصياع لما هو موروث وسائد، رغم أن الارتياح والتمسك بما هو قائم جزء من الحالة النفسية للجماهير، لكن العامل الأساسي لمناهضة النقد هو الخوف من تهديد اليقين، الذي هو الغاية العليا للإنسان، فما يقبل النقد ويحتاج لتطوير لا يكون يقينياً، وهم بالأساس يهربون فكرياً ونفسياً من حالة اللايقين، الذي يتبعه ثالوث الحيرة والشك والقلق.
نفس هذا يقال عن موقف الجماهير من رعاة اليقين ورموزه، فالتقديس الذي يحاط به quot;رأي الناسquot; وquot;كبير العائلةquot; كحماة للعادات والتقاليد، كذا تقديس رجال الدين والمتحدثين باسمه والإحجام عن مناقشتهم ومراجعتهم، بصفتهم رعاة لليقين الديني، حتى لو كانت المراجعة تتم على أساس النصوص الدينية، التي هي أساس المرجعية ومحط التقديس، ذلك أنه قد توحدت في ذهن وسيكولوجية الجماهير المرجعية النصية مع حماتها ومفسريها، باعتبارهم النافذة التي يطلون منها على المقدس النصي، بحيث صار التشكيك في قدرات هؤلاء بمثابة تشكيك في مصدر اليقين ككل، بما يخل بتوازن الجماهير الفكري والنفسي.
المسألة إذن ليست محاولة مخاطبة الجماهير بمنطق عقلاني تستطيع تقبله، ولا هي محاولة إقناعها بأن رجال الدين بشر مثلنا، وأنهم قابلون للخطأ والصواب، أو بأن آراءهم مجرد آراء بشر، وليست هي بالتحديد القوانين الإلهية ذاتها، فكل هذه المحاولات تكون بلا جدوى، مادامت الجماهير ستنظر إليها على أنها ستحرمها من حالة اليقين الرائعة والمريحة، وتعيدها إلى حالة القلق والشك والحيرة.
هنالك بالطبع مصدر ثالث لليقين المنشود توصل إليه الإنسان، لكن لم يتعرف عليه جميع الأفراد والشعوب بقدر متساو، بل اختلفت الأنصبة منه اختلافاً بيناً، ذلك هو العلم، الذي كان يتقدم طوال مسيرة الإنسان بخطى وئيدة، ثم تسارع معدل نموه بصورة كبيرة منذ القرن الثامن عشر، لكن العيب الخطير في العلم كمصدر لليقين أنه لا يسقط تلقائياً بين يدي الأفراد والشعوب مثل المصدرين الآخرين المتوارثين عبر الأجيال، لكنه يحتاج لإمكان الاستفادة منه إلى درس وكدح في تحصيل العلم ومتابعة تطبيقاته وتصحيحها وتطويرها، وهي عملية مستمرة إلى مالانهاية، وليست مقتصرة على شخص أو جيل واحد، كما أن اليقين الذي يمنحه العلم ليس في الحقيقة يقيناً حقيقياً يمكن الاستناد إليه والنوم ملء الجفون، وإنما هو يقين مؤقت ونسبي، قائم على الشك والنقد والتغير المستمر، بما يعني ضمناً نهاية أسطورة اليقين الذهبية أو الماسية، ومعها نهاية حلم الاسترخاء والسعادة الدائمة بالأمان وسط القطيع، وداخل الحدود الأزلية الموثوق من صحتها وصلاحها لكل زمان ومكان.
هكذا يكون رجم المعارضين والناقدين ودعاة التطور في المجتمعات الموسومة بسيكولوجية القطيع، هو دفاع عن حالة مثلى يتوق إليها الإنسان منذ أن تلبسه القلق والحيرة والشك، ففارق أجداده القردة على الأشجار، وراح فيما يبني حضارته، يحاول استرجاع حالة الاسترخاء الأولى، فأي قوة تلك القادرة على إيقاظ الجماهير من غفوتها السعيدة، ليعيد حقنها بالقلق، لتعاود البحث عن طرق جديدة وأفكار جديدة، تصل بها إلى مرحلة حضارية أرقى، سبق وأن وصلت لها مجتمعات أخرى، لم تستمتع بكل ما تستمتع به مجتمعاتنا من يقين؟
[email protected]
من المعتقد أن الشرارة الأولى للوعي الإنساني، والتي بدأ على أثرها الإنسان رحلته المفارقة لسائر مملكة الحيوان ولأجداده الثدييات العليا، كانت هي بداية شعوره بالقلق من المجهول والمعلوم المتربص به، سواء من الحيوانات المفترسة والحشرات، أو من ظواهر الطبيعة الجبارة، القلق خوفاً من الأخطار كان دافعه للبحث عن الأمان، وهو ما أوقعه في شرك الحيرة من أي الطرق ينبغي عليه أن يسلك، فلابد أن خبراته ومحاولاته للحفاظ على سلامته كانت تواجه في مرات عديدة بالفشل، الذي لابد وكان في بعض الأحيان باهظ الثمن أو مميتاً، ليسيطر على الإنسان ثالوث القلق والشك والحيرة، ولم يكن تأثير هذا الثالوث شريراً أو مدمراً كما قد يتبادر إلى الذهن، بل كان هو المزيج السحري الذي دفع الإنسان في مسيرته الطويلة، لينجز ما أنجز وما سينجز في المستقبل، في حين أن التخلص منه -بافتراض إمكان ذلك- يحيل الإنسان أو المجتمع إلى جثة هامدة لا رجاء منها.
كان الإنسان إذن كائناً يبحث عن الأمان، وكان يحتاج في كل خطوة إلى quot;يقينquot; بأن خطوته صحيحة، وستحقق له ما يصبو إليه، وقد توفر له اليقين في البداية من خبراته السابقة، التي كانت المصدر الذي يستقي منه التفرقة بين الخطأ والصواب، ومن هنا ما نشأ بعد ذلك من توقير ثم تقديس للعادات والتقاليد، التي كانت بمثابة خزانة لخبرات الإنسان مع الخطأ والصواب، وكان اللجوء إليها عند أي موقف يضمن له معلومة سبق تجربتها من قبل، بل وسبق أن دفع الأجداد ثمناً قد يكون في بعض الأحيان باهظاً للعثور عليها، لذا فإن الخروج على هذه العادات والتقاليد، أو تجاهل ما تمنحه بلا مقابل من يقين، يعني أن الإنسان من الممكن أن يضيع، أو على الأقل يدفع ثمناً لتجاهله لليقين المتاح أمامه، ولسلوكه دروباً جديدة لم يسبق تجربتها.
في المرحلة التالية من مسيرة الإنسان ظهر نوع آخر من اليقين بعد أن عرف عبادة الآلهة، التي كانت في البداية متجسدة في صورة حيوانات وقوى الطبيعة ومظاهرها البارزة، ثم تم تشخيصها في إله مشخص تجتمع له من القوة كل ما كان موزعاً على الآلهة المتجسدة المتخصصة في مختلف مجالات الطبيعة والحياة، ووفرت العبادة والتقرب من الآلهة (الإله) للإنسان نوعاً أرقى من اليقين، فالخضوع والانضواء تحت كنف قوة جبارة يتيح قدراً لا بأس به من اليقين، يحتاجه الإنسان بشدة في المواقف التي لم يسبق أن طالتها خبراته، أو للإجابة على تساؤلاته الوجودية، والتي لا يؤمل أن تصل إليها خبراته العملية يوماً.. هنا ظهر الدين كمصدر أعم وأشمل لليقين، ليتجاور مع العادات والتقاليد، بل وليتداخلا مع بعضهما البعض، فتشمل مقولات الدين أجزاء من العادات والتقاليد، وتتحول أجزاء من المقولات الدينية إلى عادات وتقاليد، يعمل بها حتى غير المعتنقين للدين الذي اقتبست منه، رغم أن بعضها لا يقع ضمن الخبرات السابقة التي أثبتت صلاحيتها العملية، وفي أحيان أخرى تنسب العادات والتقاليد إلى الدين، رغم خلو نصوصه المقدسة منها، وأوضح مثال معاصر للتداخل بين العادات والتقاليد وبين الدين في ذهن العامة نظرتهم إلى مسألة ختان الإناث، واعتبارها واجب ديني، رغم عدم النص عليها في أي دين من الأديان المعترف بها في منطقة الشرق الأوسط.
نستطيع أن نخلص من هذا إلى أن تشبث عموم الناس بالعادات والتقاليد وبالمقولات الدينية، والعزوف عن تأملها ونقدها، علاوة على مناهضة واستبعاد من يتجرأ على مناقشتها، هذا الموقف لا يرجع بالأساس إلى عمق اقتناعهم بما يفعلون ويعتقدون، أو أن قوى مهيمنة تجبرهم على الخضوع والانصياع لما هو موروث وسائد، رغم أن الارتياح والتمسك بما هو قائم جزء من الحالة النفسية للجماهير، لكن العامل الأساسي لمناهضة النقد هو الخوف من تهديد اليقين، الذي هو الغاية العليا للإنسان، فما يقبل النقد ويحتاج لتطوير لا يكون يقينياً، وهم بالأساس يهربون فكرياً ونفسياً من حالة اللايقين، الذي يتبعه ثالوث الحيرة والشك والقلق.
نفس هذا يقال عن موقف الجماهير من رعاة اليقين ورموزه، فالتقديس الذي يحاط به quot;رأي الناسquot; وquot;كبير العائلةquot; كحماة للعادات والتقاليد، كذا تقديس رجال الدين والمتحدثين باسمه والإحجام عن مناقشتهم ومراجعتهم، بصفتهم رعاة لليقين الديني، حتى لو كانت المراجعة تتم على أساس النصوص الدينية، التي هي أساس المرجعية ومحط التقديس، ذلك أنه قد توحدت في ذهن وسيكولوجية الجماهير المرجعية النصية مع حماتها ومفسريها، باعتبارهم النافذة التي يطلون منها على المقدس النصي، بحيث صار التشكيك في قدرات هؤلاء بمثابة تشكيك في مصدر اليقين ككل، بما يخل بتوازن الجماهير الفكري والنفسي.
المسألة إذن ليست محاولة مخاطبة الجماهير بمنطق عقلاني تستطيع تقبله، ولا هي محاولة إقناعها بأن رجال الدين بشر مثلنا، وأنهم قابلون للخطأ والصواب، أو بأن آراءهم مجرد آراء بشر، وليست هي بالتحديد القوانين الإلهية ذاتها، فكل هذه المحاولات تكون بلا جدوى، مادامت الجماهير ستنظر إليها على أنها ستحرمها من حالة اليقين الرائعة والمريحة، وتعيدها إلى حالة القلق والشك والحيرة.
هنالك بالطبع مصدر ثالث لليقين المنشود توصل إليه الإنسان، لكن لم يتعرف عليه جميع الأفراد والشعوب بقدر متساو، بل اختلفت الأنصبة منه اختلافاً بيناً، ذلك هو العلم، الذي كان يتقدم طوال مسيرة الإنسان بخطى وئيدة، ثم تسارع معدل نموه بصورة كبيرة منذ القرن الثامن عشر، لكن العيب الخطير في العلم كمصدر لليقين أنه لا يسقط تلقائياً بين يدي الأفراد والشعوب مثل المصدرين الآخرين المتوارثين عبر الأجيال، لكنه يحتاج لإمكان الاستفادة منه إلى درس وكدح في تحصيل العلم ومتابعة تطبيقاته وتصحيحها وتطويرها، وهي عملية مستمرة إلى مالانهاية، وليست مقتصرة على شخص أو جيل واحد، كما أن اليقين الذي يمنحه العلم ليس في الحقيقة يقيناً حقيقياً يمكن الاستناد إليه والنوم ملء الجفون، وإنما هو يقين مؤقت ونسبي، قائم على الشك والنقد والتغير المستمر، بما يعني ضمناً نهاية أسطورة اليقين الذهبية أو الماسية، ومعها نهاية حلم الاسترخاء والسعادة الدائمة بالأمان وسط القطيع، وداخل الحدود الأزلية الموثوق من صحتها وصلاحها لكل زمان ومكان.
هكذا يكون رجم المعارضين والناقدين ودعاة التطور في المجتمعات الموسومة بسيكولوجية القطيع، هو دفاع عن حالة مثلى يتوق إليها الإنسان منذ أن تلبسه القلق والحيرة والشك، ففارق أجداده القردة على الأشجار، وراح فيما يبني حضارته، يحاول استرجاع حالة الاسترخاء الأولى، فأي قوة تلك القادرة على إيقاظ الجماهير من غفوتها السعيدة، ليعيد حقنها بالقلق، لتعاود البحث عن طرق جديدة وأفكار جديدة، تصل بها إلى مرحلة حضارية أرقى، سبق وأن وصلت لها مجتمعات أخرى، لم تستمتع بكل ما تستمتع به مجتمعاتنا من يقين؟
[email protected]
التعليقات