فجأة ودون ترتيب تجمع نيف وسبعون مليوناً من المصريين على صيحة واحدة.. هتاف واحد ومشاعر متدفقة كفيضان نيلنا الخالد.. مصر. مصر. بلادي بلادي.. هووو. هووو. المصراوي مفيش زيوووو.. العلم المصري يرفرف في أيادي الآلاف من الأطفال والشباب والشيوخ.. رجال ونساء خرجوا جميعاً ليلاً إلى الشوارع ليسهروا حتى الصباح.. يلفون أجسادهم بالعلم المصري.. يرسمونه على وجوههم.. خرجت الأمة المصرية بكاملها لتحتفل بنصر بعض من أبنائها، وفوزهم ببطولة أفريقيا لكرة القدم.. هذا هو توصيف الأمر بكل بساطة وصدق، وبكل سذاجة أيضاً.. نعم هي السذاجة ولا ريب أن نتصور أن ذلك الفرح الغامر لشعب بكامله يمكن أن يوضع بين قوسين يحتضنان كأساً لكرة القدم!!
ملايين المصريين الذين سهروا حتى الصباح يهتفون لمصر ويرفعون علمها يعانون الأمرَّين في حياتهم اليومية.. يعيشون تحت وطأة الارتفاع الجنوني لأسعار احتياجاتهم الأساسية.. يقفون الساعات الطوال في طوابير أمام المخابز للحصول على بضعة أرغفة.. يسكنون المقابر والعشوائيات وتنهار العمارات القديمة والحديثة فوق رؤوسهم.. يعاني شبابهم البطالة بعد أن صرف عليهم ذووهم دماء قلوبهم، في منظومة تعليم تدمر ملكاتهم الإبداعية، وتصل بهم إلى منتصف العقد الثالث من عمرهم وهم لا يتقنون شيء ولا يصلحون لشيء.. هذا الشعب يقاوم باستماتة ليحتفظ بأنفاس الحياة بين ضلوعه، ثم ينتفض فجأة ليهتف باسم مصر ويلتحف بعلمها.. أكثر من 60% ممن أفقدتهم الفرحة وقارهم وأنستهم معاناتهم لا يكادون يعرفون شيئاً عن كرة القدم أو يكترثون بها.. هم يعرفون فقط أن مصر قد انتصرت، وأن بعضاً من أبنائها أثبتوا أنهم قادرون على تحقيق نجاح ينظر إليه العالم أجمع بإعجاب.
لكن الأخطر والأعمق دلالة فيما حدث هو ما ظهر على السطح وكان كامناً في قلوب ووعي الجماهير، هو الانتماء لمصر والالتحاف بعلمها.
هل نستطيع القول بأن المصريين بموقفهم هذا قد.... في وجه كل من تسيدوا عليهم وتلاعبوا بعقولهم طوال أكثر من نصف قرن مضى؟
نصف قرن من التضليل وتزييف وعي الإنسان المصري ذي التاريخ الممتد لأكثر من خمسة آلاف عام، استهله عبد الناصر بمحو اسم مصر، ليحولها إلى إقليم جنوبي في إمبراطورية وهمية بحجم زعامته التاريخية، واستبدال علمها، ليدخل العلم الجديد مسلسلاً من إضافة وحذف النجوم والطيور، ومع محو الاسم واستبدال العلم توجهت أبواق التضليل لتنسب الوطن والشعب المصري إلى وهم العروبة، التي تم الزج بالشعب المصري الكادح في معاركها الوبيلة، لتهدر دماء الآلاف من شبابه، ويتسول حبة القمح وتفلس خزانته، بعد أن كانت مصر دائنة لبريطانيا أيام الاحتلال والعهد الملكي البائد كما يحبوا أن يلقبوه.
هكذا كان ما بدا انحناء لمصر والمصريين تحت وطأة ما ألحقه بهم العروبيون من دمار وتخريب، ليعتلي ظهورهم ذئاب التأسلم والبداوة، ليبدأوا بدورهم مرحلة أقسى وأخطر من تزييف الوعي المصري، فيدعون الناس لإدارة ظهورهم للوطن، الذي لا يعدو في نظرهم مجرد إمارة في خلافة إسلامية عظمى، تمتد من الفلبين حتى أمريكا اللاتينية، وراحوا يحرمون تحية العلم، ويتجاهلون الهتاف باسم مصر، الذي تفضل السادات فأعاده ملحقاً بصفة كاذبة بكل المقاييس، ودفعوا باتجاه تغيير الأزياء المصرية التقليدية والحديثة، لتكون على نمط أزياء البداوة المستوردة من الصين، لينحسر زي الفلاحة المصرية الوقور المحتشم أمام زي يحمل من السياسة أكثر مما يحمل من الحشمة أو التدين، وليقنعوا الرجال بأن التدين هو في إطالة اللحى وارتداء الزي الباكستاني، وأنهم بهذا سوف يكونون جند الله، لا جند الوطن أو المدافعين عن ترابه والساعين لمجده!!
ما حدث من الجماهير المصرية في ليلة تفجر ينابيع الوعي المصري تلك كان.... في وجه وسائل الإعلام الرسمية الجهنمية، التي يسيطر عليها العروبيون والمتأسلمون والمأجورون، ومعها دكاكين الفضائيات والجرائد الخاصة، التي لم تر لنفسها دوراً غير الضرب على ذات الأوتار، بالتلاعب على مشاعر أمة متدينة منذ فجر التاريخ، وصرفها عن التسلح بالعلم لتغيير واقعها المزري، إلى إشعال نيران الكراهية والعداوات تجاه العالم أجمع، بل وفيما بينها وبين بعضها البعض، فكان هدم وحرق منازل وكنائس الأقباط، ومطاردة الشيعة والبهائيين، بالتوازي مع بث ثقافة الموت التي تجعل من الانتحار استشهاداً، ومن الإرهاب والقتل عمل مقاومة بطولي وجهاداً في سبيل الله.
ظنوا أن الأمر قد دان لهم أو كاد، وأنه يمكن لكبيرهم أن يسترخي على مقعده وهو يقول quot;طظ في مصر وأبو مصرquot;، وأن يعلن للمصريين أنه يمكن أن يأتي لهم بماليزي ليحكمهم.. ظنوا أن لافتاتهم الزاعقة على الجدران في كل الشوارع، وأذنابهم في الفضائيات والصحف الرسمية وغير الرسمية، والمظاهرات التي نجحوا في تجييشها، ظنوا أن كل هذا كفيل بمحي الوعي بمصر من قلوب وعقول المصريين، وأنهم بهذا سيرحبون باجتياح عصابات حماس لحدود بلادنا، التي دفعنا الدم الغالي ثمناً لتحريرها، وأننا سنفتح أحضاننا لحماس وهي تبث شياطينها ذات الأحزمة الناسفة والمتفجرات في ربوعنا الخضراء الآمنة المسالمة.. ظنوا أنه يكفيهم تضليل وتزييف وعي بعض من شبابنا لاعبي كرة القدم، مع فتاوى الفنانات التائبات (ليس عن الفن بالتأكيد)، والتوظيف المجاني أو المأجور لمذيعين وصحفيين يمتلكون وعياً ببغائياً، لتسويق شعاراتهم المستعربة تارة والمتأسلمة تارة أخرى، ظنوا أنهم بكل هذا سيستطيعون القفز على مصر الوطن والمواطنة، ومحو مصر المصرية، وتحويل النصر المصري إلى العروبة والتأسلم، كعادتهم في ركوب كل موجة.
لكن في ذلك المساء، وفجأة وعلى غير توقع، كانت تسعون دقيقة هي زمن المباراة كافية لينتفض الجسد المصري الذي تصوروا أنه قد همد إلى الأبد، ليخرج المصريون بكل انتماءاتهم العقائدية واختلافاتهم الطبقية، ليعلنوا أنهم مازالوا مصريين، وأن مصر مازالت مصرية، وأن الانتماء لمصر وعلمها هو الأقوى والأكثر رسوخاً، مهما خرب المخربون!!
همسة في أذن صاحب شعار quot;طظ في مصرquot;: بناؤكم ذاته يتصدع، هو بناء هش من الأساس يا سيدي، ففي اتصال تليفوني أخير لي، مع صديق عزيز من أيام الشباب، وهو الآن واحد من قياداتكم، كان فرحاً بالنصر المصري، وبالهتاف لمصر ورفع علمها، وعندما ذكرته مداعباً بمسألة quot;طظ في مصرquot; قال لي بالحرف الواحد: quot;لا تلتفت لمثل هذا الكلامquot;.
تساؤل يطرح نفسه: لماذا لم يظهر الجوهر الأصيل للوطنية المصرية إلا عقب مباراة لكرة القدم؟
يحتاج العثور على الإجابة إلى جهد ودرس للحالة المصرية، لكننا نستطيع أن نرصد ابتداء عدة ملامح تتوفر في مباريات كرة القدم، تجعل منها نموذجاً للفعاليات الجاذبة للاهتمام والحماس الجماهيري، هذا الاهتمام الذي نلحظه في العالم أجمع، وليس فقط في الشعب المصري:
bull;توافر الشفافية: كل تفاصيل المباراة متاحة للجماهير، ولا مجال للتعتيم والتضليل، وسواء فيما يتعلق بالأحداث أو النتائج، مما يضفي المصداقية على الأحداث، فبدون المصداقية لابد أن تنصرف الجماهير، أو هي لا تعطي من الحماس إلا بقدر ما تتلمس من مصداقية.
bull;وضوح الهدف والوسيلة: عندما تغيم الأهداف وتتضارب الوسائل نفقد الاهتمام والحماس، الذي يمكن أن يتحقق في أي مشروع أو فعالية يتوفر فيها وضوح الهدف وتحديد الوسائل.
bull;جماعية الأداء: لا تهتم الجماهير بالألعاب الفردية قدر اهتمامها بالجماعية، فهي تتوحد مع الفريق، وكأنها جزء منه، فيما الألعاب الفردية تعطي انطباعاً للجماهير بأن الإنجاز مسئولية اللاعب وحده، تصفق له إذا أنجز، وتصفر إذا فشل، وهذا مماثل تماماً للفرق بين النظم الديكتاتورية الشمولية، التي تتخذ الجماهير فيها موقفاً سلبياً، مكتفية بالرضا أو النقمة على النتائج، وبين النظم الديموقراطية التي تشارك الجماهير فيها في صنع الأحداث.
bull;العدالة وتكافؤ الفرص: تتسم قواعد اللعبة بالعدالة الصارمة، سواء بين الفريقين، أو بين لاعبي الفريق الواحد، فالفرص متاحة للجميع على قدم المساواة، وذات القواعد تطبق على الجميع دون تفرقة، وهناك طاقم حكام يقوم على مراقبة الالتزام بتلك القواعد، وتتمكن الجماهير من رصد أخطاء ذلك الطاقم وإظهار رد فعلها على أدائه فورياً.
كثيرة هي الملاحظات والعبر التي علينا استخلاصها مما يحدث في تلك المناسبات، هذا إذا أردنا لشعبنا (أو لشعوب شرقنا الأوسط) أن تستيقظ من سباتها وسلبيتها، وأن تستفيق من غيبوبة الشعارات الخاوية المضللة، لتشق طريقها نحو النجاح، تحقيقاً لحياة أفضل، أملاً في مستقبل لا نملك إلا أن نحلم به لأولادنا وأحفادنا.
ألا فلتدم مصر والمصريون إلى الأبد.. ولا دام المخربون.
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات