العنوان ليس منا بل من عبارات تقريرين رهيبين عن أطفال العراق يبعثان على ثورة الوجدان، والغضب. أما التقرير الأول، فهو اكتشاف صحفيين سويديين لسوق في بغداد يباع فيه الأطفال، رضّعا، ومراهقين. الصحفيان تخفيا في سيارة قديمة ليتابعا عن قرب ما يجري في هذا السوق وسط بغداد، بالصورة، والصوت.
لقد عرض التلفزيون السويدي هذا التقرير، الذي فجر دموع الكثيرين من المشاهدين، ودفع الحكومة السويدية للإعلان عن استعدادها لاستقبال الأطفال العراقيين الذين تساء معاملتهم، ومنحهم اللجوء مباشرة، مع منح الطفل بعد الإقامة حق جمع الشمل بولي أمره، [إن وجد!!!]. لقد تضمن ما عرضه التلفاز صورة فتاة اسمها زهراء ذات أريع سنوات تباع بمبلغ 500 دولار؟!!
إن وزارة حقوق الإنسان العراقية أعلنت عن عدم علمها بوجود السوق، وأنه في حالة وجوده فسوف تتخذ التدابير اللازمة. هنا ينطبق المثل القائل: 'إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم!'
التقرير الثاني هو لمنظمة 'يونيسيف' الدولية الخاصة بشؤون أطفال العالم، وقد نشرت صحيفة 'الحياة' خلاصته، مع معلومات أخرى حول الموضوع [الحياة في 22 يناير 2008].
يرد في التقرير ذكر وجود 5 ملايين طفل عراقي يتيم، يعيش معظمهم ظروفا اجتماعية صعبة، ومعقدة، وبلغ عدد الأطفال النازحين في سن الدراسة الابتدائية حوالي ربع مليون لم يستطع الثلث منهم مواصلة التعليم خلال 2007، فضلا عن 760000 طفل لم يلتحقوا بالمدارس أصلا، وبلغ المعدل الشهري للأطفال النازحين جراء عنف المليشيات الحزبية والإرهابيين التكفيريين 25000 طفل بين التهجير الداخلي، والهجرة لدول الجوار، وتحديدا منذ تفجيرات سامراء. بالطبع يضاف لهذا كله العدد المذهل والمخيف لاغتصاب الأطفال في مختلف المحافظات، إناثا وذكورا، دون أن نسمع عن إجراءات حكومية لمعالجة الظاهرة، بل لا ذكر لها في خطب وتصريحات أي مسئول حكومي!!
جاء في عرض أحد الصحفيين السويديين ما يلي: 'أطفال العراق يباعون في سوق النخاسة، وأحزاب تنهب ما فوق الأرض وما تحتها.'
لابد أيضا من إضافة ما نجم، وينجم، عن عمليات تفجير وقتل يوميين من بلبلة الطفل، والتأثير على نفسيته، خوفا أوهوسا بالعنف، وما لذلك من عواقب كارثية، حاضرا، ومستقبلا.
لقد قررت المنظمة الدولية للطفولة أن تقترح على الأمم المتحدة تخصيص عام 2008 للطفل العراقي، ولم نسمع بعد عن أي قرار عراقي رسمي حول مآسي الطفولة العراقية.
إن هذين التقريرين، ومجمل التقارير الدولية والداخلية، تؤكد على ' أن الطفولة العراقية تحتضر، وهي في طريقها للموت.'
إن مآسي أطفالنا، ونسائنا، ليست جديدة، فقد أدت حروب صدام، ومغامراته العسكرية، وأنفاله، ومقابره الجماعية، إلى يتم عشرات الآلاف من الأطفال، وإلى تحويل عشرات الآلاف من النساء إلى أرامل. نعم، إن محنة أطفالنا، ونسائنا بدأت من هناك، ولكنها استفحلت بعد سقوط النظام السابق، عددا، وبؤسا، وسوء معاملة، مع أنه كان مفروضا أن يكون سقوط صدام فرصة لمعالجة هذه المشاكل والمآسي؛ فإذا كان هناك بالأمس مئات الآلاف من الأيتام، فعددهم اليوم هو نحو خمسة ملايين، أما عدد الأرامل فيصل إلى مليون ونصف، وقد عالج الأخ عبد الخالق حسين مشكلة الأرامل في مقال له بتاريخ الأول الجاري، مبينا مدى التقصير الكبير من جانب حكومات ما بعد صدام لمعالجة مشاكلهن، وسوء أوضاعهن.
إن هذه الحكومات، ولاسيما الحالية، وأحزابها العتيدة، والبرلمان العجيب الغريب، لم يقدموا، حسب علمنا، على إجراء كبير، وبتمويل مناسب، لتحسين أوضاع الطفولة العراقية. إنهم منشغلون بالصراع حول تقاسم النفط، وتوزيع الميزانية، وصلاحيات المحافظات، وتعيين الحزبيين والأحباب في مراكز الدولة؛ فما الذي إذن يعنيهم من معاناة الأطفال المستباحين؟! بل، لو كانوا جادين، ويفكرون في المصالح العامة أولا قبل المحاصصات الحزبية، والعرقية، والشخصية، لاستقطع كل مسئول حكومي، وكل برلماني، نسبة من راتبه الضخم لمشروع كبير لإنقاذ الطفولة المنكوبة. لن يكون ذلك طبعا المصدر الرئيسي لتمويل مثل هذا المشروع، ولكنه سيكون التفاتة رمزية، ومعنوية، وأخلاقية، وإنسانية.
من يتصور أنه لحد اليوم لا يوجد عندنا قانون خاص لحماية الأطفال رغم توقيع العراق على العشرات من المواثيق، والتوصيات الدولية بشأن حقوق الطفل، وكرامته، كما أنه عضو في اليونيسيف، واليونسكو، فضلا عن الأمم المتحدة، أما البرلمان المحترم، الذي يغيب عادة حوالي نصف أعضائه، ويقبضون الرواتب الخيالية، فإنه في غيبوبة المصالح الضيقة.
إن تسرب التلاميذ من المدارس، وعدم التحاق مئات الآلاف بها، هل جعل السيد وزير التربية يفكر في الأسباب، والعلاج، بدلا من هوس، وحمية فرض الحجاب على طفلة السادسة! نعم، إن الناحية الأمنية لعبت، وتلعب، دورا خطيرا في شل جزئي للدراسة، وكذلك عمليات التطهير الطائفي، وما نجم عنها من تهجير واسع النطاق داخلا وخارجا، ولكن الوضع الأمني ليس المسئول الوحيد عن ذلك.
إننا لا نعتقد أنه يمكن الحكومة الحالية أن تنصرف لمعالجة مشاكل الأطفال، والأرامل، والخدمات، والبطالة، والفقر، وإن الناحية الأمنية ما كان ممكنا حلها جزئيا لولا وجود القوات الأمريكية، وما قدمت من ضحايا لمحاربة الإرهاب القاعدي الأثيم، وبفضلها أيضا تم ضبط بعض المناطق التي صارت مسرح صراعات دموية بين ميليشيات الحكومة نفسها، وهي صراعات على النفوذ مستمرة بين مليشيا المجلس الأعلى، وميلشيا الصدر، رغم إنكار الأخير لدور جيشه الإرهابي، وهو إنكار يدخل ضمن مراوغاته، ومناوراته، الإيرانية الصبغة.
هل نحتاج يا سادتي أن نضيف لكل ما مر ظاهرة الفساد العام التي جعلت العراق في مقدمة دول الفساد على الصعيد الدولي، وما أعظم هذا من إنجاز تاريخي!
إن للميزانية المخصصة للعام الحالي موارد ضخمة تبلغ 50 مليار دولار. فكم سيخصصون للطفولة، هذا إن خصصوا أصلا، وإن التفتوا قليلا لمآسي التشرد، والاغتصاب، والتسول، والفقر، والانقطاع عن التعليم، وغيرها من المشاكل التي يعانيها الأطفال، وحسب تقرير للبي. بي. سي. فإن نحو ثلث العراقيين يعيشون تحت مستوى الفقر، ناهيكم عن مآسي الخمسة ملايين عراقي اللاجئين في الخارج، وبينهم الأطفال.
لقد أكدنا مرارا، وأكد غيرنا عشرات المرات، بأن حكومة تعتمد أحكام الشريعة بدلا من حقوق الإنسان، ومبادئ الديمقراطية، لا يمكنها حل مشاكل العراق والعراقيين. إن حكومة طائفية، ذات طبيعة إسلامية، ولها ميليشياتها المسلحة، والمتصارعة على النفوذ، ولأطراف كبيرة منها علاقات المسايرة لإيران؛ حكومة تقوم على المحاصصة، وتغض النظر عن الفساد، وتهريب النفط، ليست فقط عاجزة عن معالجة مشاكل الطفولة والأرامل، ومشكلة الخدمات، ومكافحة البطالة، ورفع المستوى المعيشي للمواطنين، بل أكثر من ذلك، إنها تشكل بحد وجودها المشكلة الكبرى.
لقد دعونا باستمرار إلى تشكيل حكومة تكنوقراط من المستقلين تماما، والأكفاء، والمعروفين بالولاء الوطني، لتعالج المشاكل الأكثر إلحاحا، وخلال مسئوليتها المرحلية يأخذ البرلمان إجازة لأمد غير مسمى، فهل من سميع؟ كلا بالطبع.
لقد قرأنا أن السيد المالكي ينوي تشكيل حكومة تكنوقراط، فإذا صح الخبر، فإنه سيكون أعجوبة أخرى من أعاجيب ما بعد صدام؛ نقول 'إذا صح الخبر'، حيث لم يقع جديد يمكن النظر فيه.
لماذا نرى أن السيد المالكي لا يمكنه تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة؟ لأن رئيس وزراء ينتمي لحزب سياسي إسلامي، وله ميليشيا، لا يمكن اعتباره مستقلا لكي يدير حكومة تكنوقراط، فضلا هن تخبط الحكومة الحالية، وأخطائها المتلاحقة، التي يتحمل السيد المالكي جزءا كبيرا من مسئوليتها، وطبعا ليس كل المسئولية لوحده.
إن أزمة الحكم لا تعالج بالترقيع، والترميم، والتسكين، والترضية، أو ما يسمى 'الإصلاح من الداخل'، وإن العبء لإصلاح الوضع ليس على السيد المالكي وحده، ولا على حزب وجهة واحدة، بل على الجميع، وما يفترضه من وضع المصالح الوطنية والشعبية قبل المصالح الفئوية ومن دون إنكار لهذه المصالح.
على ضوء قراءة مواقف الكتل، والأحزاب، وتضارب مصالحها، وسيادة الطائفية، والفساد، فإننا لا نعتقد أننا نقترب من المعالجة الجادة، والموضوعية للوضع المتردي، وذلك برغم التحركات الحزبية، والاجتماعات القيادية المتوالية؛ فهل ستسير الأمور عكس تصورنا؟ يا ليت!
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات