لننتقل إلى المثلثات الأضخم والأكبر مساحة
مثال أنا أتأمل في هذا الأفق المترامي المنبسط الجميل (استقبال)
أحضر فرشاتي وألواني والورق فأرسم لوحة (استجابة) وهو العمل
أنتهي من اللوحة وأقول سبحان الله (اتصال)
مثال آخر همفريز تأمل ندف الثلج (استقبال)
عمل خمسين عاما (استجابة)
آمن بوجود يد مبدعة وراء ندفة الثلج (اتصال)، كان مثلثا مساحته عظيمة، كعظمة السنين الطويلة التي ثابر فيها وكافح لأجل الوصول إلى هذه النتيجة الرائعة، ولكن هنالك علماء بحثوا طويلا وأفنوا عمرهم في البحث العلمي، ولكن لم يختموا عملهم بالاتصال، فكان عملهم كالهباء المنثور، وأحيانا أدى عملهم إلى الفساد والأمثلة كثيرة: مخترعي الأسلحة الفتاكة بالبشرية مثل الأسلحة البيولوجية، اليابان مثلا استطاعت تطوير سلاح بيولوجي اعتمد على إلقاء جراثيم مرض الطاعون على الصين فأبادت الآلاف من الصينيين، والأسلحة العنقودية والكيميائية، وتلوث البيئة، وارتفاع معدل الحرارة في الأرض، وكل هذا كان نتيجة لبحث علمي دءوب ولكن غير متصل..
إذن هناك نقطتان من رسم المثلث ولكن النقطة الأخيرة مفقودة، وهكذا يبقى ضلعاه ممتدان إلى ما لانهاية، دون أن يغني صاحب العمل رصيده بالادخار من المثلثات التي هي مدخرات الإنسان لآخرته
وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا
والبعض يمكن أن يمر في هذه الدنيا دون استجابة لأي نوع من العمل
ويفقد نقطتان من رسم المثلث، بل إنه أحيانا لا يتأمل ولا يستجيب ولا يتصل، وهؤلاء من وصفهم الله عز وجل*إن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا*
إنهم في قيامهم وقعودهم لا يستجيبوا ولا يتصلوا ولا يتأملوا بينما على الطرف الآخر نجد أن البعض متصل حتى أثناء نومه * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم*
وهذا ما يروى عن ابن سينا الفيلسوف المشهور كان إذا صعبت عليه مشكلة توضأ وصلى ثم نام فيرى حل لمشكلته، ويروى كذلك عن مخترع الأنسولين، إذ يقال أن اكتشف هذا الدواء أثناء ما كان نائما فهو بعد أن قرأ كثيرا حول مرض السكر إذ كان يعد محاضرة عنه لليوم التالي تملكه الإعياء، فنام وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل، استيقظ فجأة وأضاء المصباح وكتب ثلاث عبارات في مذكرته؛ فكانت هذه العبارات البسيطة بعد ذلك هي المفتاح لاكتشاف هذا العلاج لمرضى السكر.
وكلمة (وعلى جنوبهم) يعني استثمار العقل الباطن لأجل العمل والاتصال بعد العمل..
هل يمكن تقدير حجم المثلث هذا والملايين من مرضى السكر الذين يستفيدون من هذا العلاج؟؟؟
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم...
تأملوا خلق السموات والأرض وما بينهما، وادخلوا بأدواتكم إلى هذا المعرض المشرعة أبوابه بالليل والنهار، واعملوا واتصلوا واصنعوا مثلثات عظيمة تجعلكم بحق خير أمة أخرجت للناس..
عندما كنت في كندا كنت أدعى في بداية كل عام دراسي، كي أحاضر في المعلمين والمعلمات، أو ما يسمى وورك شوبwork shop أي تدريب على مهارات جديدة للمعلمين والمعلمات، من قبل منظمة تدعى (مينتور
Education Network Training and Outreach Services)
وفي إحدى السنوات اقترحت عليهم فكرة المثلث، للحد من ظاهرة العنف المتفشية في مدارس أمريكا الشمالية كندا والولايات المتحدة، وتتلخص الفكرة في تدريب الطالب منذ دخوله الروضة، على إعطائه مثلث صغير بحجم قطعة النقود، كمكافأة له على كل عمل خير يقوم به في يومه، مثلا مساعدة جيرانه، إطاعة والديه، عدم الشجار مع إخوته، ابتسامة في وجه صديقه، وفي كل مرة يحصل على عشر قطع مثلا نبدلها بمثلث أكبر حجما أو مختلف لونا ليدل على التقدم في مسلك الخير.
وهكذا تغرس قصة المثلث في عقل الطفل الباطن
وعندما يكبر يفهم فلسفة المثلث، وأن كل عمل يقوم به يجب أن يتصل بقوة عليا تراقبه وتحصي عليه أفعاله، وتلزمه بأن يكون عمله هادفا وإنسانيا وخيرا، وليس عشوائيا ودون قيود، فيفعل ما يحلو له، فيقتل زملاءه وأساتذته؟!!
و حتى إذا لم يقتل إخوانه، لابد أن يتطور ويتعلم ويصنع ذات يوم: مثلا
أداة متطورة للقتل، أو اختراع يخرب به البيئة، وكل ذلك لأن تربيته كانت مادية، وأغفل فيها الجانب الروحي، ومعنى حب الخير، أو أن نكون أخيارا والذي يعرف بالدين، ولكن المشكلة أن معظم الغربيين غير مقتنعين بالكنيسة؛ فيكفروا بها دون أن يجدوا البديل عنها، أو دون أن يعرفوا أنه يمكن أن يكون هناك بديل عنها.
وفي القرآن ndash; قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير -
ذات يوم دخلت بأدواتي كمهندسة معمارية وكفنانة، وقرأت في القرآن آية الظل؛ فألفت كتابا عن رؤيتي الفنية للقرآن، وكان الكتاب موجها لفئة الفنانين، تلك الفئة التي تخشى على إبداعها، أن يحجم بالاتصال بالله، وعلى العكس؛ فقد وجدت أن هنالك عامل مشترك قوي يربط بين الفن والإيمان، إنه التأمل؛ وهو المفتاح لكل عمل، والبداية لكل استجابة.
إنه الطريق للمؤمن وللفنان، وهكذا فكل فنان ينبغي أن يكون مؤمنا، وكل مؤمن لابد وأن يتمخض أيمانه عن عطاء وإبداع يغني به البشرية، كيف يقول لي أحد نحن لا نفهم الجمال في الوردة أو القمر أو الطير؟؟؟


تجربتي الشخصية في مشروع المثلث
ذات يوم كنت أقرأ القرآن وتوقفت مشدوهة أمام الآية التالية:
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا..
وقلت في نفسي سبحان الله؟ ما هذا قول بشر؟ أي جمال في التصوير؟ وأي دقة في نقل الصورة؟ وأي حقيقة علمية؟ وأي أبعاد كثيرة تعطيني إياها هذه الآية.؟؟..
صدقوني أنني مكثت أكثر من ساعة، أتأملها وأعيدها، وما أحسبني قادرة على الابتعاد عن ظلالها اللطيفة الممتدة الحانية.
لقد جذبتني هذه الآية بحكم دراستي واختصاصي؛ فنحن في السنة الأولى من الهندسة ندرس ما يسمى بالهندسة الوصفية، وهي فرع متقدم للهندسة الفراغية، وبعدها ندرس مادة اسمها الظل، لما له من أهمية جمالية وعلمية..
هذه الآية كانت هي نقطة التحول في حياتي، التي نقلتني من إنسانة غير متصلة، إلى إنسانة متصلة، فالتزمت بالصلاة واتخذت الحجاب، وقررت أن أسخر كل جهدي للدعوة إلى الله.
قل إن صلاتي و نسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين


وهذه الآية تشير إلى حقائق عديدة أولها
1- الحقيقة العلمية الفلكية: وهي حركة الأرض ودورانها حول نفسها لأن حركة الظل إنما تنشأ من حركة الأرض، ولو شاء الله لأوقف الأرض عن الدوران، وبذلك يسكن الظل فلا يتحرك.
2- الحقيقة الثانية: أن الظل نعمة، لأنه وسطية بين الظلمة الحالكة، وبين النور المبهر
* وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى*
3- الحقيقة الثالثة: إن الظل رمز للأمن والطمأنينة
*والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر و سرابيل تقيكم بأسكم*
انتبهوا معي للمفردات ظلالا.. أكنانا..سرابيل.. ألا تعزز شعورا بالدفء والأمان والحنان والسكينة ؟؟؟
4-الحقيقة الرابعة: القيمة الجمالية في الظل* في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود، فهذا التناسق اللفظي في الألفاظ ؛ مخضود منضود ممدود، تعطي مقدمات لتذوق الجمال، الذي سيأتي أخيرا ليصف الظل، وللظل دور أساسي لا يمكن الاستغناء عنه في إبراز الجمال والشكل، لأية لوحة أو صورة فنية؛ مثلا إذا أردنا أن نرسم كرة؛ فإننا لا نعرف لها حجما، إلا إذا أخضعناها لقانون الظل والضوء، وكذلك عناصر الطبيعة الحقلية والطبيعة الصامتة.
5-الحقيقة الخامسة: * أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون *
الظلال المتفيئة هي الراجعة بعد امتداد، و هذه الآية تصور حركة الظلال الراجعة، بعد أن تمتد، وهو تصوير حركي جمالي علمي، ويعلن بكل أبعاده خضوعه لله؛ فالظل يكون بحسب اتجاه الشمس عن اليمين، ثم يميل إلى الشمال، كذلك تبعا للشمس، وهي حقيقة علمية فلكية، تعلن خضوعها وسجودها لله، وتتصل بالخالق، كما ينبغي أن يتصل به كل الكون، بكل عناصره الجمالية والعلمية
6- الحقيقة السادسة: الظل كان علامة من علامات النبوة، وحسب كتب السيرة، فقد استدل الراهب بحيرى على وجود النبي في قافلة عبد المطب من الظل الذي كان يرافقه كسرا للقوانين العلمية والفلكية.
7- الحقيقة السابعة: الظل هو صفة من صفات أهل الجنة، يقترن ذكره مع الأزواج لإضفاء الشعور بالسكينة والرحمة والحب،
لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا..
هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون..
8- الحقيقة الثامنة: وإذا كان الظل من صفات الجنة فلابد أنه نعمة في يوم القيامة يوم تفقد الأشياء صفاتها، وكما العشار سوف تعطل، والجبال سوف تدك، والنجوم سوف تنكدر، والشمس سوف تكور، وتفقد قدرتها على تكوين الظلال، ولن يكون ظل..
اللهم أظلنا بظلك يوم لا ظل إلا ظلك
تأملوا الجمال في كل ما حولكم، وإن لم يكن هناك ثلج أو ورد أو شجر فهناك ظل لكل شيء..
واعملوا اعملوا لأن العمل هو الاتصال الحقيقي بخالقكم
وهو الاستجابة للغاية من خلقكم وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون
وهو الدليل الواقعي على استقبالكم لآياته في الكون من حولكم، حتى إذا لقيتم الله لقيتموه بمثلثات عظيمة، هي زادكم ومدخراتكم الوحيدة التي حملتموها معكم من هذه الدار إلى دار البقاء...

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية