الفول هو عصب الحضارة المصرية منذ عهد الفراعنة، وكان يجب على هيروديت أن يقول بأن: quot;مصر هبة الفولquot; وليست هبة النيل، ولكنه يبدو أنه لم يتذوق الفول عندما هبط مصرا. وسر المقولة الأخرى:quot;ماحدش بينام من غير عشاءquot;، هو أن العشاء دائما وأبدا فول، وجمال الفول المدمس أنه يوحد بين الطبقات كما أنه يوحد بين الأديان، فالفول لا يتسبب فى أى فتنة طائفية و لايهدد السلام الإجتماعى بأى حال من الأحوال بل على العكس هو من أهم أسباب وجود سلام إجتماعى فى البلد بالرغم من التفاوت المذهل بين الأغنياء والفقراء، وهذا التفاوت الطبقى وكذلك الطائفى يزول تماما عند أكل الفول ومشتقاته (مثل الطعمية والبصارة والفول النابت و إلخ..) فالغنى يأكل الفول والفقير يأكل الفول والمسلم يأكل الفول مثله مثل المسيحى، وإذا جربت أكل الفول فى بيت المسيحى أو المسلم غنيا كان أم فقيرا فسوف تجد نفس (التحويجة والبهارات)، وبالرغم من أن بعض أغنياء العرب من آكلى اللحوم يعايرون أحيانا المصريين بفقرهم لأنهم من أكلة الفول وليسوا من آكلى اللحوم، إلا أن هذا لم يمنع من إمتداد عدوى أكل الفول إلى معظم البلاد العربية، فأدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا نعمة الفول ويحفظها من الزوال، وحتى هنا فى بلدان المهجر نأكل الفول على الأقل مرة واحدة فى الأسبوع لكى يذكرنا بأصلنا وفصلنا وفى نفس الوقت نتستمع بطعمه ونشعر بأننا ما زلنا على قيد الحياة.
...
وفى الزمن الجميل كان فى القاهرة محل فول مشهور إسمه أبو ظريفة، وكان عليه ضغطا شديدا وخاصة فى الصباح فتجد كل طبقات الشعب موظفين وعمال وفلاحين تتزاحم حول المحل الصغير لنيل حظها من سندويتش فول أو صحن فول بالزيت الحار، وكان أبوظريفة يضع على محله لافتة تقول:quot;
quot;إن خلص الفول أنا غير مسئولquot;
وكان يضع تلك اللافتة كنوع من الفخر بأن فول أبو ظريفة عليه إقبالا شديدا وإن إنتهى مخزون الفول وخلص فهو غير مسئول، ولكنه أعتقد أنه كان يلوم الزبون الذى لم يأت بدرى لكى ينال حظه من الفول.
وفى الحقيقة أن نظرية أبو ظريفة هذه تتعارض بشدة مع الإغنية المشهورة والتى كان يغنيها (عبد الحليم حافظ) فى منتصف الستينيات من تأليف صلاح جاهين وألحان كمال الطويل، وهى إغنية quot;المسئوليةquot;:
دى مسئولية عزيزة علىّ..
معزة الروح والحرية..
معزة العسكرى لسلاحه وأكتر...
وتلك المسئولية كان من شأنها أن تجعل لشعب مصر:
تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا!!
يعنى شوفوا الإفتراء والفشر الذى تفوق على فشر أبو لمعة، آل إيه تماثيل رخام ع الترعة، طيب خليها شوية وز و بط ع الترعة، أما وجود أوبرا على كل ترعة فدى لوحدها حكاية تانية طيب خليها مدرسة ع الترعة أو دورة مياه نظيفة ع الترعة، لكن أوبرا مرة واحدة، واسعة شوية دى!
ما علينا، نعود لموضوع المسئولية، الحقيقة أن لافتة أبوظريفة فى عدم تحمله لمسئولية نقص الفول، كانت من الممكن أن تكون مقبولة لو كان السيد أبو ظريفة يوزع هذا الفول مجانا على الزبائن الغلابة، أو لو كان فاتح محله كجمعية خيرية، ولكن هذا التاجر فاتح هذا المحل لغرض واحد فقط ألا وهو أن يربح لأنه مسئول عن توفير الفول للزبائن بالثمن الذى يحدده، وليس بالثمن الذى يحدده الزبون، ورغم كل هذا تجده يتنصل من تلك المسئولية.
ونجد أن هناك الكثير من أخذ بنصيحة أبو ظريفة فى عالمنا العربى الجميل:
الزعيم الذى أوهم شعبه بأن جيشه هو أقوى جيش فى الشرق الأوسط، وعندما هزم هذا الجيش فى ساعات لم ينتحر ولم يستقل ولكنه إبتدع كلمة جديدة وهو أنه يتنحى، وكلنا يعرف تمثيلية التنحى والتى تراجع عنها بعد سويعات قليلة، وأطلق كلمة دلع جديد على الهزيمة حيث أسماها النكسة تيمنا بكلمة النكبة (عام 1948)، ثم إكتشفتا عند محاكمة بعض كبار الضباط فى الجيش المصرى بأن المسئول الأول عن الهزيمه هو ضابط إحتياط صغير برتبة ملازم أول نال أقصى العقوبة.
...
الزعيم الآخر الذى وعد شعبه بالرخاء، ولما تأخر الرخاء كثيرا قلق الشعب ونزل فى مظاهرات يبحث عن الرخاء التائه (ويقول رخاء تائه ياأولاد الحلال) وتظاهر ضد الغلاء ورفع الأسعار فى الإنتفاضة الشعبية المشهورة يومى 18 amp; 19 يناير، وبدلا من إعتراف الزعيم وبطانته بالمسئولية إتهم الشعب بأنه هو المسئول وأطلق عليها quot;إنتفاضة الحراميةquot;، ثم فيما بعد خاطب شعبه من حديقه القصر الجميلة وطالبهم بعدم أكل اللحوم لعدم توفرها، ونسى أن يقول:
إن خلصت اللحوم أنا غير مسئول!
...
وزعيم آخر زعم أنه حارس البوابة الشرقية، إعتدى على جيرانه وأخوانه فى الجنوب جزاء لهم على تمويل مغامراته فى البوابة الشرقية، ثم وضع رأسه برأس أكبر رأس فى العالم، وفوجئنا بأن كل البوابات قد فتحت، ولم يتعظ من الهزيمة الأولى بل وإعتبرها نصرا، فمقدرتنا جهنمية على تحويل الهزائم إلى إنتصارات، ولم يحاسبه أحد، وإعتبره أغلبية العرب أنه قائدهم ومنقذهم، رغم أنه لم يعلن مسئوليته عن أى هزيمة ودائما كان يقول أنها مسئولية الخونة أو مسئولية أبو ظريفة بتاع الفول!!
...
لما حصلت مصر على (صفر المونديال) بالرغم المصاريف الباهظة التى صرفت على حملة المونديال، لم أجد مسئولا واحدا عنده دم يريد أن يتحمل تلك المسئولية ويعترف بالخطأ أو يعتذر أو يعمل أى منظر، ولكن بالعكس ما زلت أذكر تصريح الشخص المسئول (او الغير مسئول، والذى تتوارى خجلا أمامه لافتة فول أبو ظريفة) يقول أن مصر لم تخسر تنظيم كأس العالم، كأس العالم هو الذى خسر مصر، بذمتكم هل رأيتهم أكثر من هذا بجاحة وغرورا.
....
إحترقت العبارات وسقطت العمارات وغرقت فى الترع السيارات، وإحترقت دار الأوبرا الحقيقة التى بناها الخديو إسماعيل (وهى غير أوبرا صلاح جاهين الغيرالموجودة ع الترعة) وسرقت الآثار، وإغتنى المرتشون والحرامية وتجار المخدرات، إنتشر التطرف والإرهاب، وإنتشرت محاكم التفتيش، وتدهور مستوى التعليم، وأصبحنا أضحوكة العالم، ولم نسمع عن مسئول واحد يستقيل أو كفا الله الشر ينتحر أو حتى يصاب بإكتئاب نفسى، أو حتى يمثل أنه متأثر!!
وأنا بدورى أقول:
إن لم يعجبك مقالى فأنا غير مسئول.
المسئولية تقع على القارئ لأنه لم يفهم المقال!
[email protected]
اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونية
التعليقات