ليس من السهل أن تألف المشهد أولى أيامك في مدينة الرياض، فالشوارع مترامية برحابةٍ وَسِعَةٍ قلّما نشهدها في المدن والعواصم العربية الأخرى التي تلهث بظل اختناقات شديدة واكتظاظ سكاني هائل وتلوّث بيئي خطير جدا وأخطر ما فيه لا مبالاة الدولة العاجزة عن إيجاد الحلّ واعتياد المواطن على تجرّع كافة أنواع التلوّث والسموم المادية والمعنوية دون اعتراض أو كلل كما في دمشق، القاهرة، بيروت وغيرها، في حين تستوقفك الرحابة في مدينة الرياض التي تَقرأ من عناوينها الأولى، اتساع هذه المدينة أمام ضيق درايتك وخبرتك وقدرتك الفعلية على الإحاطة بتفاصيل خصوصيتها الفائقة وتفريطها المُذهل بِقِيَم الحريات، واحتفاءها البالغ بأهميّة العزل والفصل والتقوقع والانغلاق بين الجنسين التي تحتاج فعليا إلى معجزة زمنية لتقليص
حجم الغربة القائمة وتعميم التوازن الطبيعي بضرورة ترسيخ فكرة نشوء الصداقة التي لا بدّ منها، ففي الوقت الذي تُقرر أن تجزم رأيك بشأن افتقار هذه المدينة إلى الكثير مما يعتمل في تلافيف ذهنيتك ومما عهدته من تصوّر حول تشكيل المدن وتأهيل العواصم بفائض الامتيازات والصلاحيات وما يتوفر منها عادة، يُدهشك أنّ الرياض تتمتّع بأكثر مما تتوقعوفي الوقت عينه يؤسفكَ اضطرارك إلى إخماد فضولك دون تردد تجاهها، فالرياض مدينة لها زهوها وفصاحتها وقناعاتها وخيلاؤها الذي يتلاءم معك وربما يختلف بحوار مفتوح مرّة، ومنقوص أخرى، ولكنه بالتأكيد غير متكافىء، وعدم التكافؤ تقرّه مفاهيم ومنطلقاتٍ عدّة، أهمها اختلاف البيئة الاجتماعية، تباين وجهات النظر والأساليب الفكرية الشائعة والمُتداولة، تباعد الثقافات التي تحكمها التابويات العقائدية، تفاوت المستويات والحالات الاقتصادية، إضافة إلى تصدّر الرياض منصّة القرار السياسي في المنطقة عموما ولبنان خصوصا وامتلاكها على الأقلّ النصيب الأكبر من مفاتيح الحلّ والعقد بشكل أو بآخر لتعديل الخط البياني المتعلّق بالرأي العام والخاصّ على حدّ سواء، حيث تلعب الرياض اليوم دورها الحيوي الذي لا يُستهان به، هذا الدور الذي يجسّده الملك عبد الله خادم الحرمين الشريفين المتّسم بالبوادر وحسن النوايا، التي بدأت بدعوة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد والتي أسفرت عن مصافحات كثيرة وابتسامات عريضة أشرق بموجبها فضاء التفاؤل لدى الجميع، ولكن لم يلبث أن عاد إلى سابق عهده من الغموض والغيوم وquot;المآجلة quot;، وخاصّة فيما يتعلق بالاستقرار اللبناني وإمكانيةاتّخاذ بعض القرارات من الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الذي أعطى تطمينات كثيرة أهمها مبدئيّا إسقاط نيّة الحرب على دول الخليج والمملكة العربية السعودية على الأقل بالنسبة للمدى المنظور، كذلك كبح جماح المعارضة اللبنانية التي تلبّي معظم الطموحات السورية على أكمل وجه، ومن ضمن سلسة الدعوات المُتعاقبة على المملكة زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي، والتي أعقبتها على الفور زيارة مقتضبة للرئيس الأميركي جورج بوش، اكتفى خلالها بعرض بهجته العميقة التي عبّر عنها رقصا وبذخا وصفقات
مصيريّة كفيلة برتق عجز بوش المادي والمعنوي وترميم مواقفه المتهالكة تِباعا، أتابع السير خلف السائق الخاص للسيارة الفارهة التي تقلّني أمطّ عنقي لأقرأ اللافتة العريضة quot;طريق الملك عبد الله quot; ولا فتة أخرى quot; طريق الملك فهد quot; وأخرى quot; طريق الأمير تركي الأول بن عبد العزيز quot;،
وفجأة طريق quot;العروبة quot; وأتساءل هل طريق العروبة يأتي استكمالا للطرقات السابقة؟
وأواصل السؤال تُرى هل سار بوش على طريق العروبة؟ هل قطعه أم سيعزز تمهيده؟ تداعيات كثيرة تزاحمت في رأسي لتوقظ فكرة الدكتور عبد العزيز السبيّل وكيل وزارة الثقافة في الرياض الذي كان لي معه حوار طويل لبرنامجي الإذاعي quot;اختلاف عبر أثير إذاعة صوت بيروت quot;، عندما اقترح أن تُفعَّل فكرة مسلسل quot;باب الحارة quot; بفتح الأبواب ال22 المجاورة ليصير العالم العربي كلّه حارة واحدة مشرفة على تناغم وحب وحميمية عربية مشتركة، من يعلم ربما تكون يوما أولى بواباتها تبدأ من الرياض لتفتح على خط العروبة كل الأبواب الموصدة.

-الرياض- المملكة العربية السعودية
-الصور بعدسة المصمّمة -هند البصيّص -

رابط ذات صلة :
http://www.al-jazirah.com/culture/2008/14012008/aoraq33.htm

[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية