لا تشي الأوضاع في سوريا بهدوء واستقرار مستديم قريباً، رغم الزيارات واللقاءات التي يشهدها قصر الشعب، حيث يستضيف زعيم هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) وفوداً رسمية وشعبية محلية ومن الدول المهتمة بالشأن السوري.
يحاول الشرع الظهور بمظهر القابض على السلطة والمترفع عن أعمال الانتقام أو المحاسبة الميدانية للخصوم، ولكن الواقع في مكان آخر، وقد برز جلياً هذا الأسبوع انفلات الشارع من عقاله في كثير من المناطق.
وإذا كانت إيران متهمة بإثارة الإشكالات التي شهدتها مناطق متفرقة في دمشق وحمص والساحل السوري بفعل تصريحات مسؤوليها، فإنَّ ذلك لا يعفي القابضين على الحكم من تحمل مسؤولية بعض الأفعال التي تؤجج عدداً من المناطق. وقد تكون نوايا الجولاني صادقة في الشعارات والتصريحات التي أطلقها بخصوص رؤيته لمستقبل سوريا، غير أنَّ الأفعال تتضارب مع الأقوال في أكثر من مكان. فسوريا التي تحتضن جميع أبنائها لا يجوز أن تقصي حكومتها الإنقاذية مكونات سورية أساسية، وإذا كانت الحجة أن هذه الحكومة جرى نقلها على عجل للحؤول دون الوقوع في الفراغ، وهي تشكلت أصلاً بفعل الظروف التي كانت قائمة في إدلب، كان يمكن أن يُضاف إليها وجوه تمثل جميع المكونات السورية كالدروز والعلويين والأكراد والمسيحيين، تماماً كما أُضيف إليها أسعد الشيباني في منصب وزير الخارجية.
ومن الحكومة إلى ملف المحافظين، برزت إشكالية جديدة تتعلق باختيار شخصيات محددة لإدارة عمل المحافظات، وهنا ظهر جلياً أنَّ الأولوية للشخصيات التي كانت مقربة من أبي محمد الجولاني، سواء أكانت تنتمي إلى النصرة أو أحرار الشام، وصقور الشام، والجبهة الشامية. وحدها محافظة السويداء انتقت شخصية مدنية لمنصب المحافظ، وهي سيدة تدعى محسنة المحيثاوي التي دخلت التاريخ باعتبارها أول شخصية نسائية تتبوأ هذا المركز في بلاد الشام.
وسط هذه الأجواء، يتعقد المشهد السياسي السوري أكثر فأكثر. فالتصريحات الصادرة عن الجولاني وحكومته في وادٍ، والأفعال الحقيقية على الأرض في وادٍ آخر. وهذا ما قرع جرس الإنذار في كثير من الدول الإقليمية والعالمية، بحيث ارتفع منسوب المخاوف من أن تنحو سوريا باتجاه السيناريو الليبي حرباً أو سلماً.
إقرأ أيضاً: هكذا تلقى "الجولاني" أولى ضرباته أميركياً
وإذا كانت ليبيا تشهد صراعاً بين حكومة في طرابلس وجيش في الشرق مدعوم بالبرلمان في طبرق وفصائل عسكرية تظهر في مناطق متعددة، فإنَّ الوضع السوري سيشهد سيناريو مماثلاً مع تعدد أكبر للقوى المتقاتلة بحال الفشل في العبور نحو دولة مدنية تتمثل فيها جميع الأطياف. فسوريا شهدت تفلّتاً في ملف السلاح على مدار السنوات الثلاث عشرة الأخيرة، وخلَّف التهاوي السريع للنظام وراءه ثكنات ومقار عسكرية ممتلئة بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، وهذه الترسانة وقعت بأيدي فصائل متعددة. ولعل الجولاني أدرك خطورة الأمر، فوضع في قائمة أولوياته، في إطار بسط سلطته، حل الفصائل ودمجها في الجيش.
ولكن طريقة إدارة أمور الدولة والتعيينات دقت ناقوس الخطر لدى هذه الجماعات التي يخشى قادتها الخروج من المولد بلا حمص بعد سنوات أمضوها في قتال النظام.
ورغم كل التصريحات عن إعلان الفصائل عزمها على الاندماج وحل نفسها، إلّا أنَّ الوقائع لا تذهب بهذا الاتجاه. فقوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على مساحة من الجغرافيا السورية أقل بقليل من المساحة التي تسيطر عليها حكومة سوريا الجديدة، لن تحل نفسها في الأيام القادمة. وقضيتها مرتبطة بتشعبات إقليمية أكثر منها محلية. وهناك أيضاً الجيش الوطني السوري في الشمال، الذي يحظى بغطاء تركي، ويُعد أبرز الجماعات التي تقاتل قوات سوريا الديمقراطية. وللمفارقة، فإنَّ تركيا تريد القضاء على نفوذ الأكراد في أسرع وقت، بينما الجولاني لا يزال يتريث.
إقرأ أيضاً: إردوغان يُحيي حلم الخلافة Remotely
وإلى جانب هذه الجماعات في الشمال والشرق السوري، يبرز أيضاً جيش الإسلام بزعامة عصام بويضاني، والذي التقى بالشرع مؤخراً بعد سنوات من العداء. الجيش الذي شهدت مدينة دوما بريف دمشق ولادته على يد زهران علوش، أعلن رغبته بالاندماج بشرط المشاركة في الحكم، والرد كان بتعيين أبرز مساعديه، أبو أنس حدود، رئيساً لجهاز الاستخبارات، مما زاد الشكوك حول مستقبل المشاركة بفعل اعتماد الجولاني على شخصيات معينة لتولي مفاصل الأجهزة الأمنية والإدارية الحساسة.
وإلى الجنوب السوري، يبرز فصيل أحمد العودة الروسي الهوى. وفي السويداء، هناك فصائل عديدة تضع قرارها بعهدة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، الشيخ حكمت الهجري.
إقرأ أيضاً: الجولاني… من الانهيار إلى الانتصار
ولهذه الأسباب، فإنَّ سوريا ستلحق بليبيا بحال تصارعت القوى والفصائل العسكرية فيما بينها. وللمفارقة، فإنَّ النحو باتجاه الاستقرار سيشهد سيناريو ليبياً أيضاً ولكن على شكل ما يحدث مع الحكومة في طرابلس. أي باختصار نفوذ تركي كامل في الدولة. فدور أنقرة في إسقاط الأسد يشبه الدور الذي لعبته في منع حكومة طرابلس من السقوط أمام تقدم الجيش الليبي منذ سنوات. ولهذا الموقف ثمن برز في ليبيا من خلال مذكرات التفاهم والاتفاقيات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية وصولاً إلى اعتبار الجرائم التي قد يرتكبها أفراد عسكريون أتراك أثناء أداء واجباتهم الرسمية أو في نطاق مسؤولياتهم في ليبيا خاضعة حكماً للقانون التركي.
وفي سوريا، بدأ النفوذ التركي بالظهور بعد أقل من شهر على سقوط النظام، من البحث بإمكانية إقامة قواعد عسكرية وتجهيز الجيش السوري الجديد، وصيانة المطارات، والصفقات البحرية، واتفاقيات سياسية واقتصادية، بحيث إنَّ السوق السوري الجاف سيشكل عاملاً مغرياً للصناعات التركية.
التعليقات