يشهد كل من العراق وليبيا واليمن، على نحو لافت ومُقلق، تراجعًا ملحوظًا نحو مظاهر ما قبل الدولة الحديثة، بشكل يميزها عن بقية الدول العربية. يتجلى هذا التراجع في انحسار سلطة القانون والنظام أمام نفوذ القبيلة والعشيرة، وما يتبع ذلك من تعزيز الهويات الفئوية الضيقة، وتهميش فكرة المواطنة الجامعة، وكأننا نشهد عودة إلى أنماط اجتماعية سادت قبل نشوء الدولة الحديثة، تُشبه في جوهرها بعض جوانب ما يُعرف بـ"الجاهلية" بما تحمله من تغليب للعصبية القبلية على سيادة القانون. هذه العودة تُعيد فرض أنماط اجتماعية تقليدية على مجتمعات يُفترض أنها قطعت شوطًا في مسيرة التمدن في ظل نظم علمانية وإسلامية، ما يُعيق مسيرة تطورها وتقدمها.

الأمر الأكثر إيلامًا هو حال العراق، الذي شهد نهضة حضارية وتمدنًا منذ بدايات القرن الماضي، وكان نموذجًا للتقدم الاجتماعي والثقافي في المنطقة، إذ ينزلق اليوم بسرعة نحو هذا المنحدر، مُتجاوزًا في سرعة انحداره بقية الدول. هذه العودة إلى الأعراف القبلية والعشائرية تُلقي بظلال كثيفة على مستقبل المجتمع العراقي، وتُعيق بشكل خطير بناء دولة مدنية حديثة قوامها القانون واحترام حقوق جميع المواطنين.

هذا الأمر ينعكس بشكل خطير على العملية الانتخابية، التي من المفترض أن تُفرز الأكفأ والأجدر لخدمة الوطن، إلا أنَّ نتائج الانتخابات الأخيرة في هذه الدول تُؤكد بشكل متكرر أن الخطاب السياسي يعتمد بشكل كبير على استثارة الانتماءات الفئوية والطائفية والعرقية والمذهبية والعشائرية، بدلًا من التركيز على البرامج والحلول للمشاكل الحقيقية التي تواجه المجتمع. هذا يُشبه، كما قال المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير"، انقياد "الجموع وراء الشعارات العاطفية بدلًا من التفكير العقلاني". هذه الطريقة في الانتخاب تُعد بمثابة "إطلاق نار على القدم"، ففي كل دورة انتخابية، يُعيد المجتمع إنتاج نفس المشاكل بل وبشكل أعمق، مُعرّضًا نفسه للإعاقة والشلل التام على المدى الطويل. فبدل أن تُساهم الانتخابات في بناء مؤسسات قوية ودولة حديثة، تُصبح أداة لترسيخ الانقسامات وتعميق الجراح.

إقرأ أيضاً: الاستثمار في العراق سلاح ذو حدين!

هذا الواقع يُلقي بمسؤولية كبيرة على عاتق المثقفين والنخب الواعية في هذه المجتمعات. فكما قال الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل: "الأمة التي لا تُفكّر لا تستحق الوجود". إن دور المثقف لا يقتصر على وصف الواقع، بل يتعداه إلى تحليل أسبابه واقتراح الحلول والمباشرة بوضع الخطط وتنفيذيها بمراقبة المثقف وعمله ورصد الهفوات في الطريق حتى الوصول الى الأهداف المنشودة.

من وجهة نظري أرى أن تراجع دور المثقف في قيادة التغيير والإصلاح يُحوّل هذه البلاد إلى "سفينة بلا قبطان ولا بوصلة يستهدي بها الركاب". فغياب القيادة الواعية والرؤية المُستنيرة يُعرّض المجتمع لخطر الضياع والتيه.