لا ينفك السلوك السياسي الواقعي لإدارة سوريا الجديدة يتطور، وهو المندرج تحت إطار المقاربة البراغماتية، التي تستند عليها كجدار لتأمين مستقبل سير البلاد، وموقعها على خارطة الاصطفاف الإقليمي، الذي بدأت تتضح معالم تكوينه على قاعدة واحدة فقط: المصالح السياسية التي تحقق الاستقرار لتحالفات في المنطقة قائمة على أنقاض حرب تكسير العظم بين إسرائيل وإيران وأذرع محورها.
وفي ظل استمرار موسم الحجيج السياسي إلى دمشق، يبدو أن ما يقال في الغرف المغلقة أكثر عمقًا ووضوحًا من رسائل سياسية عبر وسائل الإعلام تخاطب ود جهات تنتظر بيان المواقف المتضادة على أرض الواقع، والدفع بها لكسر المحظور الذي ظلّ جاثمًا طيلة عقود سابقة.
طابع مواقف سوريا الجديدة بَان جليًا في تكرار النهج التركي الإسلامي (السني) المعتدل في إعادة بناء الدولة، والذي يستوجب الوصفة القطرية في فتح مسارات واشنطن عبر مجرى تل أبيب، وهي وصفة استثمرت فيها الدوحة من قبل بافتتاح مكتب تبادل تجاري عام 1996. حيث يعود أول اتصال بناءً على رغبة من الولايات المتحدة لعام 1993، حين التقى شمعون بيريز بحمد بن جاسم في بيت المندوب القطري الدائم في الأمم المتحدة في نيويورك، لتصبح قطر أول دولة خليجية تستدعي العلاقة مع إسرائيل لتوثيق روابطها مع الولايات المتحدة.
بالعودة إلى الوراء قليلًا، جاءت الوصفة القطرية، ومراميها في حينه، في سياق حسم الخلاف بين الشيخ حمد بن خليفة وأبيه، وتمهيدًا لتغيير الحكم في الدوحة، الذي بدأت معالمه تتضح مع تحرك حمد بن خليفة الدبلوماسي بعلم وأمر مباشر من الشيخ حمد بن جاسم، الذي أدرك أنَّ مفاتيح قبول خطوته الانقلابية تأتي عبر التماهي مع الرغبات الأميركية في التواصل مع إسرائيل.
تقاطع المصالح دفع الوصفة القطرية المغلفة بصيغة تبادلية مع دولة إسرائيل بعناوين تجارية واقتصادية، في مقامها السياسي، لمنح الدوحة تحصينًا سياسيًا أميركيًا تستقوي به أمام ضغوط محيطة كانت تتوجس منها قيادة قطر الجديدة في ذلك الحين.
إقرأ أيضاً: كُمُون الإخوان أمام عودة ضجيج سياسات ترامب
وما زال القطريون يجهرون ليل نهار أنَّ نشاط الدوحة في التقرب من أنظمة حكم وحركات وأحزاب ذات أيديولوجيات دينية جاء بطلب أميركي، وخدمة لدورها الوظيفي في مساق الوساطات التي تُعقد في ملفات إقليمية ودولية.
في الوقت الحاضر، تقف قيادة دمشق أمام معضلة؛ فتكريس معادلات حكمها معتمد على تكرار نهج تركي إسلامي براغماتي معتدل في تسويق نفسها أمام المجتمع الدولي، الذي يؤيد مزيدًا من التحركات الدبلوماسية لبيان جدية المسار السياسي لإدارة دمشق الجديدة. وقد بدأت تظهر مؤشرات لجوء هذه القيادة إلى الوصفة القطرية لقبول استمرارية حكم أحمد الشرع، الذي صرّح أن المرحلة الانتقالية قد تأخذ من ثلاث إلى أربع سنوات، مما يتطلب إقناع أروقة مؤسسات الحكم في الولايات المتحدة بمشروعية مسارهم بلقاء ورقة التقرب من تل أبيب، وهو ما عبّر عنه محافظ دمشق ماهر مروان في تصريحات فُسرت بذلك الاتجاه.
إقرأ أيضاً: سقوط أحجار الدومينو الإيرانية في الشرق الأوسط
القلق على الوضع الداخلي، ورفع العقوبات، وإعادة الإعمار ودعم خطة اقتصادية متكاملة تعيد رفع مقومات بناء الدولة السورية، تتطلب أكثر من نهج تركي براغماتي أو فتح خزائن الدوحة لمد جسور التعاون الاقتصادي تمنح إدارة أحمد الشرع دعائم تقوية نظام حكمه. النظام الساعي إلى تثبيت أركانه من خلال خطوات تهدف لتعزيز منظومة الأمن والدفاع، إذابة فصائل الهيئة المسلحة لتكون عماد وقوام جيش سوريا الجديدة، والتفاوض مع قسد، وقرار حل هيئة تحرير الشام قبيل كتابة دستور جديد تمهيدًا لانتخابات عامة. مسار نمطي يحتاج لاكتماله إلى علاقة ميثاقية طبيعية مع واشنطن المحكومة اليوم بسياسات إدارة دونالد ترامب. علاقة مقترنة بمصير مصالح متبادلة تراعي الحقائق التي تجسدت بفعل الحرب في المنطقة تحت قاعدة واحدة: صفقة مقابل صفقة.
التعليقات