سرت في الأوساط القيادية الإخوانية في عموم الشرق الأوسط تعليمات واضحة ومباشرة صادرة عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، تقضي بضرورة خفض الأنشطة السياسية التصادمية مع أنظمة عربية فاعلة، وتقليل حدة التصعيد الإعلامي خلال فترة بداية استلام إدارة الرئيس دونالد ترامب مقاليد الحكم في واشنطن، تحسبًا لإعادة إحياء مقترح تصنيف حركة الإخوان تنظيمًا إرهابيًا.

مؤخرًا، وبعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، زاد توهّم جماعة الإخوان المسلمين، بحكم عوامل سياسية عديدة، أنَّ الجمهورية الإيرانية هي السبيل الوحيد والأمثل لعودتهم إلى مسارح الشرق الأوسط السياسية في أي صفقة قادمة قد تعقدها إدارة الرئيس جو بايدن، وترثها من بعدها كامالا هاريس بذات حسابات "الديمقراطيين" القائمة على احتواء إيران والتعامل معها بأساليب الدبلوماسية الناعمة، دون إدراك مسارات يرسمها اليمين الإسرائيلي الحاكم بميادين وساحات الصراع الدائر، مسارات تجاوزت حركة حماس في قطاع غزة؛ الامتداد الوحيد المتبقي والمنقذ لفكر الجماعة من التلاشي.

جماعة الإخوان المسلمين ألقت برهاناتها دفعة واحدة على الطاولة الإقليمية، وبنت حساباتها وتحالفاتها مع النظام الإيراني وبرغبة قطرية، استعدادًا لفوز كامالا هاريس الحتمي (المرشحة التي كانت ترغب إيران وقطر والإخوان في فوزها). بل تمادى الإخوان قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية في التبشير بعودة حقبة إخوانية سياسية شبيهة بما منحتهم إياها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، التي ساهمت في الدفع سابقًا بعناصر الجماعة في العديد من الدول إلى الواجهة السياسية وصولًا إلى كراسيها الرئاسية والبرلمانية، بعد موجات احتجاجية شعبية منحتها إدارة أوباما زخمًا سياسيًا وسميت بـ"الربيع العربي".

ومع بدء الولاية السابقة للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، وتسارع الانقلاب الدراماتيكي بأوضاع جماعة الإخوان المسلمين وتنظيمها الدولي، تنتظر قيادات الجماعة معجزة سياسية تحييها مجددًا، وتوقف خطر الاندثار الذي اقترب بفعل تصدي الدولة العميقة في عدد من الدول العربية لمؤامراتها، لتقرر هذه القيادات التقوقع أمام سياسات إدارة ترامب الأولى، مبتعدة عن تصادم سياسي مع أنظمة دول عربية، تقوقع ساقته كنهج وإستراتيجية للحفاظ على الحد الأدنى من قوتها وشعبيتها وعناصرها في الشارع العربي، مع الاحتفاظ بنسج تحالفات جديدة في الظلام، وإيجاد بديل عن الحاضنة التركية الإقليمية لمشروعها السياسي، فبدأت حوارًا مع طهران لم ينقطع؛ حوار تقاطع المصالح وتبادل المنافع.

لتأتي إدارة الرئيس جو بايدن، دون رؤية واضحة للتعامل مع ملفات الشرق الأوسط المتشابكة، بل عمدت إلى إبقاء معادلات الشرق الأوسط دون إحداث تغييرات سياسية عميقة أو شاملة، وبقيت الجماعة تتموضع في قوقعتها مع ارتفاع وتيرة المناكفات السياسية لإعادة تنشيط خلاياها وعناصرها وإبقاء عينها مفتوحة تجاه مسار العلاقات الأميركية – الإيرانية وما ستسفر عنه تحولات تصب في خلق اندفاعة سياسية تقربها إلى الحكم مجددًا.

ثم جاء السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وظنّت الجماعة أنه الفرصة المثالية لإعادة طرح نفسها كلاعب على المسرح الإقليمي باستنساخ التجارب الميليشياوية الإيرانية في العديد من الدول العربية، بحجة محاربة الاحتلال الإسرائيلي، وذلك باستخدام أدواتها المعهودة في تحشيد عناصرها للظهور بموقف المتحكمة في الشارع العربي وتوجيهه بدعوات غير واقعية باقتحام حدود كيان الاحتلال.

إقرأ أيضاً: السعودية تهيئ لمعركة دبلوماسية كبرى

احتراق الرهانات الإخوانية لم يكن فقط بسبب خسارة حماس لقطاع غزة في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل أو ضعف الفعل الاحتجاجي للشارع العربي برمته، بل أيضًا لانحسار منظومة التأثير والنفوذ الإيراني في المنطقة، ووضوح معطيات جديدة على الساحة الإقليمية باستقواء تيارات سياسية أصبحت ترى فرصة تاريخية للتخلص من فكر سياسي مبتور ومستهلك وبالٍ سعى لتكريس مصالحه عبر المصالح الإيرانية، فخرج خاسرًا ليس مؤخرًا فقط بل في كل منعطف سياسي مرت به المنطقة.

إقرأ أيضاً: لن يسقط اتفاق أوسلو

قصور الرؤى الإستراتيجية للإخوان المسلمين يأتي في سياقات ضمور قدرتها على تجديد نفسها أو مواكبة معادلات سياسية إقليمية جديدة أو إحداث تأثير ولو محدود في ميزان الصراع أو حتى إيجاد مقاربات مختلفة في عداوتها الأيديولوجية مع دول في المنطقة، وهو ما يضعها أمام خيار واحد، هو معاودة اللجوء إلى سياسة الكُمُون استعدادًا لولاية ترامب الجديدة، هربًا من “قصاص” قد يكون جزءًا من ثمن في ترتيبات صفقة منتظرة تسعى بها أطراف إقليمية لتقديم "قرابين" مقابل أثمان سياسية تحافظ بها على الحد الأدنى أمام سياسات ترامب الماضية قدمًا في تصفية شوائب إيرانية عالقة في المنطقة بحكم سياسات إدارات "ديمقراطية" أميركية سابقة، ترتيبات بدأت معالمها تطفو على السطح؛ بطرد قيادات حماس السياسية، وإغلاق مكاتبها في العاصمة القطرية الدوحة.