في ظل الفوضى التي نعيشها الآن في العراق، وتحكّم الطامعين وذوي الفصام الوطني، ممن يعملون بكل جهدهم على تفكيك بلادنا وتمزيق حبال الوصل بينها وبين المدنية والتحضّر والنهوض والارتقاء، ونشر بذور الفوضوية والانقسام وتفكيك عرى النظم الحديثة التي بدأ العراق يمسك أول خيوطها، وكاد أن يفلت من ظلامية وتخلّف ما يسمّى الدول النامية؛ لم يجد هؤلاء غير ترسيخ العشائرية ونشر أعرافها وتقاليدها البالية وسمومها في أوصالنا، لتكون بلاءً آخر يضاف إلى بلاء الطائفية والمذهبية والنزاعات بين أبناء الوطن الواحد، وصولاً إلى هدم أركان المجتمع كلياً.

أليس غريباً أن يُفتقد القانون تماماً في بلاد مثل وادي الرافدين، التي كان لها الأسبقية وقصب السبق على أمم المعمورة كلها في سنّ القوانين وترسيخ الشرائع والأنظمة، وإعداد البنود والمواد القانونية بشأن العقاب والثواب، وإعطاء كل ذي حق حقه، ومعاقبة كل من يسيء إلى المجتمع؟

أقول هذا الكلام وأنا أرى بأم عيني مدى شيوع النزعة العشائرية ورسوخها والخضوع لأعرافها وتقاليدها، طوعاً أو رغماً، ما دامت الدولة لا ينظمها قانون مدني سائد وصارم، وبقيت يد القضاء مهزوزة رخوة يلويها هذا السياسي المتنفذ. يد ترتعش حينما تمسك سيفاً أو سوطاً لمواجهة ومعاقبة المسيء واللص والخارج عن القانون وراعي الجريمة المنظمة والمأجور للقتل، الذي ينتقي ضحيته في الشارع أو السوق أو الدائرة الرسمية بكل صلف، ويترك القتيل أو الجريح نازفاً دون أن يوقفه أو يمسكه أحد، ويلقي القبض عليه متلبساً بجريمته.

وفي أسوأ الأحوال، لو كانت عشيرة القتيل متنفذة ولها شأن بين العشائر، فما على القاتل إلا أن يدفع ديّة القتيل، مما يسمونه "فصلاً"، إلى أهله وأسرته، وينتهي كل شيء. أما دور الدولة أو القضاء، فغائب تماماً وكأن مصير أبنائها لا يهمها في شيء، فالحق العام غائب في إجازة مفتوحة منذ أكثر من عقدين.

ومع أن القبلية قد رسّخت موطئ قدم لها منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921، حيث كان ثلث النواب من زعماء القبائل في البرلمان، فإن القانون المدني العراقي كان له دور فاعل في تحجيم سطوة العشيرة وأعرافها، وتضييق خناقها إلا في نطاق ضيق جداً، حينما تكون بعيدة عن أنظار القانون.

بعد انتهاء الملكية في تموز (يوليو) من عام 1958، تم توجيه ضربة قاصمة إلى النزعة العشائرية وممسكي زمامها من الإقطاع، حينما صدر مرسوم جمهوري بإلغاء قانون العشائر، الذي لم يكن إلا سلاحاً بيد الإقطاع، يخيف به الطبقة المسحوقة من الفلاحين الفقراء التابعين لهذه العشيرة أو تلك. في حقبة الملكية، وصل الأمر إلى حد الاستعباد، لكن هذا القانون حرّر الإنسان من نفوذ رئيس العشيرة والإقطاعي معاً، ليبقى الإنسان محمياً مصاناً في كنف قانون مدني وضعي سليم.

إقرأ أيضاً: حينما تتوحش المدنيّة

لكن جاء صدام حسين وتبنى مجدداً العمل بالأطر العشائرية لتكون سنداً له ومنعة، بعد أن نفخ في رمادها وأشعل الجمر مجدداً. فقد توقّدت النزعة العشائرية كثيراً وصارت منهجاً راسخاً، حتى إنه قام بتنصيب من يراه عوناً له وسنداً من رعاع القبائل ورذائل رجالها ليكونوا زعماء قبائلهم رغماً عن أناس القبيلة وأتباعها.

وصلت النزعة القبلية والعشائرية إلى ذروة تسلطها، وهيمنت على القانون المدني الوضعي، حتى بتنا نرى الآن مقرات في كل المحلات والأحياء البغدادية، بما في ذلك الأحياء الراقية، تشير اللافتات فيها إلى "مقر رابطة عشيرة آل فلان" و"قبيلة آل فلتان".

ومن المضحكات المبكيات أن هناك تسعيرات محددة لمبالغ الفصل، سواء للقتل العمد أو حتى الملاسنة. ولم تسلم مفاصل الدولة من تلك النزعة، إذ توجد مكاتب عشائرية تعمل داخل السلطة التنفيذية وبعض الوزارات الأمنية، مما يُضعف السلطة القضائية ويفتتها.

إقرأ أيضاً: ترقيصات شعرية لحفيدتي الكَنَدِيّة

وليس خافيًا أن يصل الأمر إلى مداه المخزي حين يلجأ نواب في البرلمان، وهم ممثلو الشعب، إلى عشائرهم لأجل نصرتهم عندما يتعرضون إلى بعض الأذى أو الانتقاد بسبب تصريحاتهم. ولذا تراهم يستنجدون بقبائلهم لأخذ الفصل من عشيرة الطرف الآخر. وكثيرًا ما سمعنا أن الناطق الرسمي لتلك الكتلة الحزبية قد أساء القول على مسؤول أو عضو من الكتلة الأخرى، فيستغل الطرف المُساء إليه الفرصة ليلوذ بقبيلته ويطالبها برفع الحيف عنه وأخذ حقه مالًا أو اعتذارًا. فيلجأ "المعتدي" إلى استرضاء "المعتدى عليه" عن طريق "مشّاية"، وهم وجهاء القبيلتين، ويجتمعون معًا لتحديد قيمة الفصل ومبلغ الاسترضاء.

وقد يصل نوع الاسترضاء أن يهب الطرف المعتدي بعض نساء القبيلة إلى عشيرة الطرف الآخر في عمليات مساومة بشعة، وكأن المرأة تُباع وتُشترى وتُقدّم هدية لترضية الطرف المشتكي. وقد خفتت هذه الحالة وكادت أن تنعدم بعد صيحات الاستنكار والاستهجان، حتى من أفراد القبائل لو تنازعت فيما بينها. فصارت تُسام المرأة بقدر معين من المال لتحديد سعر مناسب لها لإيفائه بدلًا من أن تذهب هي بنفسها مهرًا بخسًا أو مجانيًا، وتكون ديّة للآخرين.

إقرأ أيضاً: شجرتا التفاح والنخلة ورفيقة العمر حينما أسلمن الروح في حديقة بيتي

ولا أعرف كيف أن هؤلاء الساسة والمسؤولين الكبار في الدولة من نواب البرلمان ومن لفّ لفّهم يلجؤون إلى قبائلهم طلبًا للقوة والمنعة ورفع الحيف عنهم. ولا أفهم كيف سيبنون دولة ديمقراطية مدنية، مثلما يتشدقون بها، ويضعون اللبنة الأولى لنظام مدني متحضر طالما هم بهذه الحال من الرثاثة الفكرية والميل السقيم للطائفة والعشيرة!

كل ذلك يحصل في بلادي، والقانون المدني والمواد القضائية في العقاب والثواب نائمة في سبات عميق، فلا استرداد للحقوق ولا معاقبة لمن يعيثون في القوانين الوضعية فسادًا وتعطيلًا طالما أن القانون العشائري والأعراف القبلية هي السائدة. والأنكى أنها تتغذّى وتشاع وتنتشر كالوباء بسبب سكوت الدولة وضعفها وارتخاء السلطة القضائية. بل وهناك الغالبية من ذوي الشأن في سلطاتنا الثلاث من يعمل على ترسيخها وديمومتها نكاية وإعلانًا للحرب على الأنظمة القانونية المدنية السليمة. وقد لا أغالي لو قلت بملء فمي إن سلطة القبيلة عندنا الآن فوق سلطة القانون والمحاكم وجميع مفاصل القضاء. ووصل الأمر إلى اختراق مؤسسات الدولة كلها، مما أضعف قوة الهيكل الحكومي والعبث بدستور البلاد إلى حد السخرية منه وضرب قانون العقوبات العراقي عرض الحائط والاستهزاء بمواده.

إقرأ أيضاً: القواعد العشرون لإيجاد الزوج الحنون

أما المواطن البسيط، ممن لا عشيرة له أو ممن يستهجن هذه الممارسات في أعماقه وفي قناعاته الفكرية، فمن السهل أن يكون صيدًا سهلاً وضحية لمكائد مجموعة تتحين الفرص لانتقاء من تختاره للإيقاع به. كأن تفتعل حادثة دهس مفتعلة في الشارع أو افتعال عراك، ومن هنا يبدأ الابتزاز وسلب المال والمقاضاة العشائرية. فيلجأ الضحية المسكين إلى الاستنجاد بقبيلة نافذة لتدافع عنه مما يسمى في العرف العشائري "يذب جرش"، عسى أن يتم تخليصه وإخراجه من المأزق الذي أوقعوه فيه. ومن لا يستجيب عليه أن يغادر بيته ويهرب إلى مكان آمن خلاصًا منهم. وكم رأينا في أحيائنا بيوتًا مهجورة كُتب على أبوابها وجدرانها عبارات تشير أن هذا الهارب مطلوب عشائريًا.

كم هو حائر هذا المخلوق العراقي، تُرى أيّ السهام يتّقي وبأيّ جدارٍ يحتمي؟ فكلّها جدران آيلة للسقوط على رأسه، ولم يبقَ له ملاذ إلا أن يعيش وسط وحوش الغاب. ولا أغالي لو قلت إن الوحوش قد تكون أكثر رحمة وحنوًا مما هو فيه ببلاد الفوضى والطيش وموت القانون والشراسة التي كشّرت عن أنيابها وبرزت أظفارها من قبل عصابات الجريمة المنظمة المطلقة السراح في مشهد مرعب لم يرَه حتى في أشرطة الرعب السينمائية.