اغتيالات في طهران وعالم نووي يسقط في ضواحيها، وطن ونصف من وثائق البرنامج النووي الإيراني تُهرّب في وضح النهار إلى خارج البلاد؛ فالموساد يسرح ويمرح داخل الأراضي الإيرانية في اختراق استخباراتي غير مسبوق عبر التاريخ لجهاز استخبارات دولة داخل دولة أخرى. كيف حدث هذا الاختراق؟ وإلى أي حد وصل اختراق الموساد في طهران؟ وما سر العداء بين الدولتين؟

بعيدًا عن نظرية المؤامرة التي يتبناها البعض حول العلاقة السرية بين إيران وإسرائيل وتنفيذهما مشروعاً داخل الدول العربية يخدم كليهما، يأتي الصراع الاستخباراتي بين الدولتين في مسعى إسرائيلي إلى كبح جماح إيران ومنعها من الخروج عن الخطوط الحمر المرسومة لها. وهنا نكتشف السبب الحقيقي الذي دفع جهاز الموساد للعمل بشكل كبير داخل إيران. أعتقد أن البداية كانت منذ وصول الخميني إلى السلطة في طهران عام 1979، حيث دخلت العلاقة بين إيران وإسرائيل في دوامة من التوترات والعداء المفتوح، إذ أصبح هذا التاريخ نقطة تحول في إيران والمنطقة حيث أعلنت إيران عن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل وبدأت في دعمها العلني للفصائل المناهضة لإسرائيل مثل حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين.

هذا العداء تحول إلى مواجهة غير مباشرة، حيث أصبحت إيران مركزًا لما سُمي محور المقاومة ضد إسرائيل، حسب زعمها، والذي ضم عددًا من الدول والميليشيات التي تدعمها إيران، مما جعلها هدفًا رئيسًا لجهاز الموساد. وفي إسرائيل، أصبحت إيران تمثل تهديدًا وخطرًا نظرًا لطموحاتها النووية ودعمها حركات المقاومة التي تستخدمها لتحقيق حلمها في السيطرة على الدول العربية وإحياء الإمبراطورية الفارسية.

من هذا المنطلق، عمل الموساد على اختراق إيران وبدأ في شن عمليات استخباراتية دقيقة استهدفت المواقع الحيوية والشخصيات البارزة داخل إيران. ونجحت إسرائيل في تقويض جزئي لقدرات إيران الحيوية النووية والعسكرية وتقليل تأثيرها في المنطقة وحماية أمن إسرائيل. ومع استمرار المواجهة والتهديدات وظهور شخصيات جديدة على الساحة الإيرانية، أصبحت إيران مركز نشاط أساسي يتطلب استراتيجيات مبتكرة وأدوات متطورة لضمان تفوق إسرائيل الاستخباراتي.

وبالفعل، تمكن الموساد من اختراق الأمن الإيراني من خلال استخدام مجموعة متنوعة من الوسائل والأساليب المتقدمة التي تمزج بين الابتكار التكنولوجي والتخطيط الاستخباراتي المحكم. من أبرز هذه الوسائل كان التجسس الإلكتروني، وعبر هذا وصلوا إلى معلومات حساسة للبرنامج النووي الإيراني وأهداف ذات أهمية استراتيجية كالمواقع النووية. كما لجأ الموساد إلى تجنيد العملاء داخل إيران معتمدًا على شبكة معقدة من الأفراد لتنفيذ مهام محددة بدقة، كجمع المعلومات وتنفيذ عمليات تخريبية طالت الكثير من المواقع الحساسة في إيران، أهمها الشبكات الكهربائية والاتصالات التي أدت إلى تعطيل الأنظمة الحيوية وشل بعض الخدمات الأساسية في البلاد.

كما تمكن عملاء الموساد من تنفيذ اغتيالات لشخصيات علمية، عسكرية، وسياسية بارزة، معظمهم كان مسؤولًا عن تطوير البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي الإيراني. من أهمهم وأولهم كان مسعود علي محمدي، وهو أستاذ جامعي متخصص بالفيزياء شارك في تطوير البرنامج النووي الإيراني. ومن الشخصيات العسكرية اغتال الموساد حسن طهراني مقدم، والملقب بأبي البرنامج الصاروخي الإيراني.

كما نفذ الموساد عمليات معقدة استهدفت البنية التحتية الحيوية داخل إيران. هذه العمليات تضمنت شن هجمات سيبرانية معقدة استخدمت برمجيات خبيثة مثل فيروس "ستوكسيند" الذي استهدف أنظمة التحكم الصناعية في منشآت نووية مما تسبب في تعطيلها بشكل مؤقت. هذا التخريب كان يهدف إلى إضعاف الجهود الإيرانية على مواصلة تطوير برامجها النووية والصاروخية إضافة إلى خلق حالة من الفوضى والاضطراب داخل البلاد.

من خلال هذه العمليات، أكدت إسرائيل على استراتيجيتها الشاملة في استخدام التكنولوجيا والهجمات السيبرانية جنبًا إلى جنب مع العمليات الميدانية لتحقيق أهدافها الأمنية داخل إيران التي نجحت في إضعاف القدرات الإيرانية من الداخل وعرقلة أي تقدم قد يهدد التوازن العسكري في المنطقة ليكون لإسرائيل التفوق العسكري والتقني تحسبًا لحدوث أي صراع في المنطقة.

كانت ردات فعل القيادة الإيرانية على كل هذه العمليات مقتصرة على التصريحات النارية والوعود بالانتقام وتوعد بالتصعيد. وفي بعض الحالات، أقدمت إيران على تنفيذ هجمات انتقامية ضد مصالح إسرائيل أو حلفائها في المنطقة مستخدمة الميليشيات التابعة لها في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن.

إقرأ أيضاً: الحرب النووية ومآلاتها

على الصعيد الأمني، عززت إيران إجراءاتها الأمنية والاستخباراتية بشكل كبير. شملت هذه الإجراءات تحصين حماية الشخصيات البارزة والمواقع الحساسة بالإضافة إلى زيادة الرقابة على الأنشطة الاستخباراتية الأجنبية داخل البلاد. كما عملت إيران على تحسين قدرتها في مجال الحرب الإلكترونية من خلال تعقب ومتابعة أيّ هجمات سيبرانية مستقبلية.

على المستوى الداخلي للبلدين، نرى أنَّ العمليات التي نفذها الموساد داخل إيران كان لها تأثير كبير على الأمن القومي لكل من إسرائيل وإيران، خاصة في إيران، حيث أدى اغتيال علمائها النوويين وتخريب المنشآت الحيوية إلى تباطؤ في بعض برامجها العسكرية والتكنولوجية. كما زرعت هذه العمليات شعورًا بالقلق وعدم الثقة بقدرة أجهزتها الأمنية على حماية البلاد من الاختراقات الأجنبية. في المقابل، عززت هذه العمليات من أمن إسرائيل حيث نجح الموساد في تحييد بعض التهديدات الكبيرة قبل أن تصل إلى مرحلة تهديد حقيقي.

إقرأ أيضاً: قصة الاختراقات الأمنية للحرس الثوري وحزب الله

كما أظهرت هذه العمليات قدرة إسرائيل على تنفيذ عمليات في عمق الأراضي الإيرانية، مما سمح بوجود طبقة إضافية جديدة من الردع ضد أي تحرك إيراني قد يستهدف إسرائيل في المستقبل. بشكل عام، عُزز التفوق الإسرائيلي الأمني في المنطقة.

على المستوى الدولي، أثرت هذه العمليات على العلاقات بين الدول الكبرى وإيران. إذ عززت عزلة إيران الدولية حيث دفعت بعض الدول إلى فرض مزيد من العقوبات ضدها أو على الأقل عدم معارضة السياسات الإسرائيلية تجاهها. وفي نفس الوقت، أثارت تلك العمليات مخاوف العالم من ازدياد حدة الصراع في الشرق الأوسط، ما أدى إلى جهود دبلوماسية للحد من هذه العمليات لمنع اندلاع مواجهات شاملة.

على المستوى الإقليمي، تعمق الاستقطاب بين المحورين المؤيد لإيران والمعارض لها، مما أثر على التحالفات السياسية في المنطقة، مما دفع بعض الدول العربية إلى تعزيز تعاونها الأمني مع إسرائيل. وهذا تطور غير مسبوق في العلاقات الإقليمية، كما غيرت هذه العمليات من طبيعة العمليات الاستخباراتية المستقبلية في المنطقة. أصبحت الهجمات السيبرانية والعمليات الخاصة الدقيقة هي الأساس في الصراعات الاستخباراتية الحديثة.

إقرأ أيضاً: هل ينجو الأسد من حلفائه؟

كما دفعت هذه العمليات أجهزة الاستخبارات في المنطقة إلى تطوير تقنيتها وأساليبها سواء لتعزيز قدراتها الهجومية أو لتحسين دفاعاتها ضد عمليات التجسس والتخريب. بالإضافة إلى ذلك، تسببت هذه العمليات في توسيع نطاقات نشاطاتها الاستخباراتية لتشمل مجالات جديدة مثل الحرب الإلكترونية والتكنولوجية المتقدمة، ما يعني أن الصراع المستقبلي في المستقبل سيكون أكثر تعقيدًا واعتمادًا على الابتكار التكنولوجي.

هذه التغيرات أسهمت في إنشاء جيل جديد من العمليات الاستخباراتية التي تعتمد على الدقة والتقنيات الحديثة بدلًا من العمليات العسكرية التقليدية.

وبتقييم شامل لعمليات الموساد داخل إيران، يمكن القول إنَّ الجهاز حقق نجاحًا كبيرًا في تحقيق العديد من أهدافه الاستراتيجية من خلال اغتيال العلماء النوويين وتخريب المنشآت الحيوية واختراق البنية التحتية الإيرانية. وتمكن الموساد من تعطيل البرنامج النووي الإيراني وإضعاف قدرة إيران على تنفيذ خططها العسكرية والتكنولوجية. وهذا يدلّ على قدرة الموساد على تنفيذ مهام معقدة ودقيقة في عمق الأراضي الإيرانية، ما عزز من مكانة إسرائيل كقوة إقليمية قادرة على حماية أمنها القومي بفعالية، بالرغم من دفعها تكاليف هذا النجاح، لا سيما في تصاعد التوترات في المنطقة وزيادة احتمالات نشوب حرب شاملة بين إيران وإسرائيل.

إقرأ أيضاً: قراءة متأنية في الضربة الإسرائيلية الأخيرة لإيران

ومع استمرار التصعيد بين الدولتين، يبقى الصراع بينهما مفتوحًا على مصراعيه، ومن المتوقع استمرار الموساد في تنفيذ عمليات سرية ضد أهداف إيرانية. ومن المرجَّح أن يبقى الصراع الاستخباراتي بين إسرائيل وإيران عنصرًا أساسيًا في الديناميكيات السياسية والأمنية والعسكرية، ويجعل من الصعب التنبؤ بمسار الأحداث في المستقبل، إلا إذا قررت إسرائيل، وبناء على المعطيات الجديدة وأهمها وصول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى السلطة، تنفيذ ضربة حاسمة لإيران تستهدف البنى التحتية للمفاعلات النووية والمراكز الحيوية وكبار الشخصيات في الحرس الثوري الإيراني. ومن غير المستبعد استهداف المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي في ضربة قاصمة ستساهم بشكل كبير في سقوط نظام الملالي هناك. وهذا يمكن أن يفجر البركان الكامن في منطقة الشرق الأوسط حيث تتشابك المصالح الدولية والإقليمية.